الأربعاء، 14 مايو 2014

فلسفة الفقراء وفلسفة الأغنياء



   اٍن أبسط تعريف للفلسفة هو " حب الحكمة " ، حب المعرفة , هي حب معرفة الحقيقة .الفلسفة هي نشاط عقلي انساني هادف الى معرفة الحقيقة  , هي  حالة الرغبة للمعرفة التي تثيرها حالة الاندهاش والتساؤل  التي تصيب الانسان من ملاحظته للظواهر الكونية والطبيعة والمجتمع والانسان والعضويات النباتية والحيوانية .

   ومن يدرس الفلسفة تنمو لديه فكرة البحث وتتوسع بصيرته وتقوى لديه المقدرة على الفهم وسبر غور ما يمر به من أحداث يومية ، وما يدور في العالم المحيط به .

      ولكن هل من الممكن أن يتكون لدى جميع الناس فلسفة واحدة وحيدة لتفسير ما يجري حولهم من أحداث ؟  بالطبع  ، لا .

   ولما كانت الفلسفة مجمل لأفكار وخبرات  تتراكم من خلال تفاعل الناس مع الطبيعة ومع بعضهم البعض , ونتيجة لهذا التفاعل تتكون عنها مفاهيم  في أدمغة الناس ، ولما كان الناس يختلفون في مستوياتهم الاقتصادية , فانهم حتما سيختلفون في الطرق والوسائل التي يحصلون فيها على الغذاء ،وهذا التمايز الاجتماعي لا بد أن يخلق فئات اجتماعية ، طبقات اجتماعية ، تختلف في مصالحها عن بعضها البعض ،  لهذا كان من الطبيعي ظهور آراء وفلسفات مختلفة في المنطلق ، وفي النتائج . وكل طبقة اجتماعية تحاول  تسييد مفاهيمها عن الحياة وطريقتها في تنظيم المجتمع .

   ولما كانت الحقيقة هي أفكارنا ، فهمنا لما يجري في الواقع ، ولما كان هناك اختلاف بين الناس في فهم الواقع ومجريات الأحداث حولهم  ، اذا لابد من وجود اختلافات فيما يحمله الناس من أفكار ونظرات عن الواقع في عقولهم ، أي في نظرتهم الفلسفية للحياة .

  والآن ، لابد من السؤال : هل من الممكن أن تتكون لدى جميع  الناس نظرة صحيحة ، نظرة علمية  لمجريات الأحداث ومسبباتها الواقعية ؟ بالطبع , لا  ، وذلك لأن لكل طبقة مصالحها وتتبنى من الأفكار ما يخدم هذه المصالح ويدافع عنها  ، وبالتالي نرى في المجتمع خليطا من النظرات ، خليطا من الفلسفات ، منها من يكون أقرب  الى  الواقع ، الى العلم في تفسيره للأحداث الدائرة حولنا ومنها ما هو أبعد في تفاسيره عن الواقع ، عن العلم ، عن التجربة المعاشة ، بل الأقرب الى الخيال، الى الخرافة ، الى الميثولوجيا الاٍجتماعية ، أقرب الى التفسيرات الشعبوية ليس للأحداث الاجتماعية ، بل وحتى الأحداث الطبيعية الصرفة ، مثل كسوف الشمس وخسوف القمر ، ومسببات الأعاصير والزلازل والبراكين والحرائق .

  ان التفسير والفهم الفلسفي العلمي ينطلق من الواقع ويساير العلم والمكتشفات العلمية لكى تكون حية وحيوية في استيعابها لكل جديد ومتطور في جميع جوانب الحياة المادية والفكرية .

  ان العلوم  ، الأحياء ، الفيزياء ، الجيولوجيا ، والفلك  ، وفروع الطب وغيرها  تتخصص في دراسة وفهم وتفسير  قسم من الظاهرات في العالم ، كل في مجاله . أما الفلسفة فهي شمولية في دراستها للظاهرات ، وتعتمد على المنجزات العلمية في تدعيم تفسيراتها لما يدور في الكون من أحداث وظاهرات ، لهذا فان الفلسفة لا تستطيع الاٍستغناء عن منجزات العلوم الأخرى ، والفلسفة من هذا الطراز ، أي التي ترتكز على العلم ، هي الفلسفة التي يسعى الناس لامتلاكها ومعرفتها ودراستها .

   من هنا أصبح معنى الفلسفة  في هذا العصر هي النظرة الشاملة لما يجري من تغيرات على الموجودات المادية والعضوية والاٍجتماعية ، وهي بهذا  العلم عن القوانين  الأكثر شمولا التي تخضع لها كل الظاهرات في العالم , القوانين التي بموجبها تتطور الطبيعة والمجتمع والفكر البشري .

  ولكن ما هو المغزى من دراسة الفلسفة  ؟ يجيب على هذا السؤال ، كارل ماركس ، حيث يقول :" دأب الفلاسفة على تفسير الظاهرات والأحداث التي تحدث في العالم والمجتمع ، ولكن المهم هو تغييره ".

 

    ولا عجب اذا رأينا في المجتمع طبقات ، وفئات اجتماعية لا يعجبها التفسير العلمي ولا الفلسفة التي تؤمن بالتطور والتغيير، لأنها تتعارض مع مصالحها . فاذا عرف الناس الفهم السليم الواقعي لمجريات الأحداث في المجتمع ،أي اٍذا فهم الناس أسباب الظلم الاجتماعي ، أسباب الفقر ، أسباب التمايز الاجتماعي وانقسام المجتمع الى طبقات  فان هذه المعرفة ستدفع الجماهير الفقيرة الى الثورة ، الى محاولة التغيير ، متخذة من الفلسفة الشمولية الواقعية نسقا فكريا ، أيديولوجيا لها في حراكها الاجتماعي نحو بناء المجتمع الأفضل .

 

  ان الطبقات التى تملك السلطة بحكم موقعها الاقتصادي القوي تتبنى فلسفة غير علمية تزيف الواقع وتزيف الفهم الحقيقي للفوارق الاجتماعية وتشوه العملية التطورية للمجتمع الانساني ، وتتبنى فلسفة غير منهجية ، لا يمكن على أساسها بناء مجتمع خالي من الأزمات الاقتصادية والارهاصات الاجتماعية .

  أما الطبقات الفقيرة والتي تشكل الجماهير الغفيرة من العمال والفلاحين والذين يقع على كاهلهم مهمة انتاج الخيرات المادية اللازمة لاستمرار الحياة ، ومهمة تطوير الحياة ووسائل العيش ، هذه الطبقات لا يمكن لها اٍلا أن تتسلح بالنظرة الفلسفية الأكثر تقدما ، الأكثر طليعية في التعامل مع الواقع الاجتماعي ، مع الفكر الانساني .

 

  ان النظرات الفلسفية تختلف في النظر الى المسائل المتعلقة بمعنى الحياة ، والسعادة والحرية والاستقلال والبناء والتطور . فالشعوب المناضلة من أجل الحرية تتناقض مع التفسيرات الفلسفية التي تنشرها  الدول الامبريالية .

  فأنظمة الحكم الديكتاتورية والملكية والوراثية تتبنى فلسفة تتناقض مع فلسفة شعوبها الطامحة للتغيير ، وتحاول جعل فلسفتها هي السائدة وتنشر المفاهيم المضادة للتطور والتقدم والتغيير .

 

   فالفلسفة التي ترتكز على العلم  اذن  ليست مع الجميع الظالم والمظلوم ، السيد والعبد ، البرجوازي والعامل ، الاقطاعي والفلاح ، الكمبرادوري والمستهلك . بل تكون مع , وضد ، أي تدافع عن مصالح ضد مصالح ، أي مصالح الذين تخدمهم ، أي لا يمكن أن تكون محايدة ، بل منتمية ومتحزبة ، والفلسفة العلمية هي التي تتحزب وتدافع عن مصالح الفقراء والمظلومين في المجتمع .

  على مر التاريخ كانت هناك نظرات فلسفية متعددة بتعدد الطبقات الاجتماعية ، ولما كانت هناك طبقات حاكمة ، سائدة ، ظالمة ، تملك السلطة والمال وتجير القوانين لصالحها وتنشر لدى الجماهير فلسفة  القناعة والقبول بالوضع الراهن وعدم المحاولة للتغيير ، اٍن هذه الفلسفة هي الفلسفة المثالية ، التي كانت دوما تدافع عن مصالح الطبقات الفوقية .، الأغنياء ، السادة ، الاقطاعيين ، البرجوازيين ، الأريستقراطيين .

 

   وبالمقابل كانت هناك طبقات محكومة ، فقيرة ،- عمال وحرفيين وفلاحين - مضطهدة ، مظلومة لا تملك المعرفة ولا التعليم ، ولكن لديها حس بأن السلطة ظالمة ، ولكن لا تعرف السبيل الثوري للتغيير . ان لدى الفقراء دوما نزوعا للتغيير واصلاح الوضع الاجتماعي , وتتكرر المحاولات للتغيير , ولكن لا تصل الى النتيجة المرجوة , وذلك بسبب غياب الفكر الارشادي الثوري عن الحراك الاجتماعي , ومن هنا وفي ظل تكون الظروف الموضوعية الملائمة للثورة لا بد من أن تظهر البؤرة المتعلمة والتي تكشف للجماهير الفلسفة الثورية  ، النظرة الفلسفية المادية ، العلمية ، والتي تكشف اِسباب البؤس والظلم الاجتماعي وسبل التحرر الاجتماعي . إن الفلسفة الثورية هي التي تضع المبرر التاريخي للحراك الاجتماعي ، للثورة ، للتطور ، للسير نحو المجتمع الأفضل .

 

   اذنْ هناك نظرتان فلسفيتان الى العالم : نظرة فلسفية مثالية ، ونظرة فلسفية مادية . هناك من يقول أن من يملك الاقتصاد – الأرض والمصانع  - يملك البلاد ، أي يسيطر على جهاز الدولة والجيش والشرطة ويفرض القوانين  ، لهذا نجد الطبقات السائدة ، الحاكمة تعمل جاهدة للبقاء في السلطة للأبد لهذا تبنت الفلسفة المثالية ، وفي نفس الوقت عملت بكل قوة على تزييف المفهوم الحقيقي  للفلسفة المادية ، فجعلت الناس ينظرون للمادي ،  بأنه شخص أناني ومحب للشهوات ويهتم بالمصالح الشخصية ، أما المثالى  فشخص يخدم المًثل ، من حق وخير ، ومنزه عن الغرض ، وذو أخلاق مثالية .

  ان دعاة المُثل والأخلاق والعفاف من الطبقات الحاكمة والأغنياء هم أكثر الناس شبقا وحبا للشهوات ونهما في اغتراف اللذات . وهذا واضح في حفلات الزواج لديهم والأعياد و المناسبات المتعددة الأشكال والألوان .

 

  ومما يثير العجب أن " القطط السمان " وهم الأكثر انتفاخا والاكثر بذخا يكثرون من التشدق بالمًثل و دعوة الفقراء الى القناعة ، وعدم النظر الى ما متع الله به الأغنياء من نعم ، وما الغنى والفقر الا منحة مقدرة من الله وتفضيل للناس بعضهم على بعض ، فلا يمكن ان يخلق الله الناس متساوين ، وهذه سنة الحياة أن يكون بين الناس فقراء وأغنياء ، وينشرون أن الفرق الحقيقي بين الأغنياء والفقراء هو في التقوى ، وليس في الدرجة الإقتصادية والمراكزية ، أو امتلاك المال ، وتجدهم يُكثرون من سرد الآيات والأحاديث النبوية  لإقناع الفقراء بالاستسلام لقدر الله عليهم ، فإن له حكمة في ذلك .

 وكثيرا ما نراهم ينشرون بعض الآراء الكاذبة  بقولهم أن الأغنياء حصلوا على أملاكهم لأنهم نشيطين وكانوا يعملون ليل نهار حتى ادخروا ما يملكون ، بينما الفقراء كسالى ولا يعرفون كيف يدخرون المال .  

إن هذه الأكاذيب لا تقنع إلا السذج والبسطاء من الناس ، فواضح من هو الأكثر نشاطا في المجتمع ، ومن هو الذي يعمل من الصباح الى المساء  ، وواضح من هو الأقل نشاطا والأقل في ساعات العمل ، فطبقة الأغنياء لا يعملون بل يؤجرون الآخرين لينجزوا أعمالهم . ولو بحثنا كيف حصل الأغنياء على أملاكهم لوجدت أنهم مارسوا ، هم أو آبائهم أساليب ملتوية لا يعرفها الفقراء ، وحصلوا بعدها على هذه الأملاك .

  إن هذه التبريرات تهدف الى ترسيخ تقسيم للعمل بأن الفقراء مخلوقون للعمل الجسدي ، بينما الأغنياء  بأجسامهم المنتفخة  وتنعم جلودهم ، هم وزوجاتهم اللامعة المرفهة  ، غير مناسبين للعمل الجسدي ، ويحاولون بكل الوسائل للحفاظ على هذه التقسيمة في المجتمع ، ونراهم يسلكون الطرق السرية والعلنية لتنمية رؤوس أموالهم أضعافا مضاعفة باختراق كل القوانين الوضعية والوصايا الدينية لتغطية مصاريفهم الماجنة .

بينما الفقراء ليس لديهم ما يسد الرمق  بالكاد . و بالكد المتواصل يحصلون على قوت يومهم ، فليس لديهم لا الأرضية الاقتصادية ولا الإمكانية المالية للبذخ والاغتراف مما لذ و طاب . 

 

 ان هذا الفهم بعيد كل البعد عن المعني الفعلي لكل من المفهومين الفلسفيين  ، المادي والمثالي  في النظرية والتطبيق .

 ان الفلسفة المادية ، تنطلق من الواقع ، من الأحداث الجارية ، من الأسباب المادية ,الواقعية للظواهر الطبيعية والاٍجتماعية ، وتقدم لها الحلول الواقعية حسب خطوات المنهج العلمي ، وأن كل توقع لحدث ما ،  يرتكز على المعطيات والامكانات الواقعية ، ومدى الاحتمال الأكثر احتمالا وامكانية .

  أما الفلسفة المثالية ، فتبدأ من الخيال والقدرية والغيب ، وهذه القوى لا يمكن اخضاعها للتجربة ، ولا يمكن توقع الحدث القادم من الغيب ، ولا مداه ولا زمانه ولا مكانه ، وقد تكون نتائجه سلبية لأًناس أكثر اٍيمانا ، ولا مانع في ذلك ، لأن المؤمنون أشد بلوة . فالحدث القدري لا يمكن توقع نتائجه ، ولا تحاشي الأضرار الناتجة عنة ، لأنه غيبي يسقط عليك دون  ٍاٍنذار .

  هذا هو الفرق الفعلي بين الفلسفة المادية والفلسفة المثالية في النظرية والتطبيق ، وعلى الجموع الغفيرة أن تختار بين الفلسفة المثالية  التي تبرر الظلم وتزينه وتعمل على  تمييع الصراع الطبقي بالنصائح الدينية ، وتجعل الناس يؤمنون بأبدية الفوارق الاٍجتماعية ، وأن الحياة الأفضل هي في علم الغيب ، وسنحصل عليها بعد الموت . ان هذه دعوة للتواكل وعدم الثورة وعدم الميل للتغيير وبناء المجتمع الأفضل .

   بينما الفلسفة المادية  توضح الأسباب الواقعية للظلم الاجتماعي ، للفوارق بين الناس ،ان الفلسفة المادية لا تؤمن بقدرية وأبدية الفوارق الطبقية بين الناس , بل تؤمن ان هذه الفوارق جاءت بسبب الخلل في تقسيم خيرات البلاد لصالح مجموعة صغيرة من الناس , وتحاول إقناع الناس أن هذا الوضع هو الوضع الطبيعي , ولا داعي للتغيير , بل لا يمكن تغيير الفوارق الطبقية بين الناس لأنها إرادة إلاهيه , فالله جعل الناس درجات , ويجب عدم الثورة لتغيير هذه الدرجات , " ولا تمدن أعينكم للذي متعنا به غيركم " – قرآن كريم .

   ان الفلسفة المادية تؤمن أن الفوارق الطبقية هي فوارق اقتصادية مصطنعة , أي فوارق  يسببها الخلل في تقسيم  خيرات البلاد بين الناس , ويتم هذا بطرق ملتوية باسم الميراث , أو باسم الهبات المصطنعة من الحاكم , وفي إطار العمل يتم عن طريق استئثار  المالك بكامل الربح الذي يقوم به العامل في المصنع أو في المزرعة .

 

  ان الفلسفة المادية تؤمن بإمكانية تغيير هذا الوضع الغير انساني وغير العادل , و تبين الطرق والوسائل الاجتماعية الممكنة لبناء المجتمع الأفضل . انها توضح المبررات التاريخية للتغيير ، للثورة ، للتطور العلمي والاجتماعي .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ماهي الدولة ؟؟هل للدولة دين ؟

لا تزال هناك صعوبات في تعريف الدولة , فالدولة مشتقة من كلمة STATUS أي حالة أو وضع , لذلك تعددت التعريفات الغير متفق على جزئياتها من قبل الجم...