الجمعة، 27 ديسمبر 2013

كيف عرفت نظرية داروين ؟



 
    في الحياة العادية نتعامل كثيرا مع المظاهر أكثر من الجوهريات , ولا تستدعي منا الغوص للجواهر إلا إذا إصطدمنا بقضية أحسسنا اتجاهها بالخطر على حياتنا ، أو قضية علمية تطلبت منا جهدا للتعامل معها بعقل متفتح ، وانتباه وحشد معلومات علمية متعددة ليكتمل تصورنا لها . فمثلا ، لو وجدت زجاجة مكتوب عليها : " مادة سامة "، فستأخذ حذرك منها ، وتحاول التعرف عليها ، اسمها واستخدامها ، ولماذا وُجدت هنا ؟ يختلف الأمر ، لو تصادفت مع زجاجة مكتوب عليها ، " مياه للشرب " أو زجاجة لا يوجد عليها أية تحذيرات .


ان كلمة " مادة سامة " ، تثير لديك الكثير من التساؤلات والتفكير وتجعلك تفكر كيف تتعامل مع هذه المادة . وفي الجانب الآخر إذا تواجهت مع قضية مثيرة للاهتمام ، اقتربت منك اقترابا ملك عليك تفكيرك ، وأشغلت بالك ، مع أنها لا تثير عند بعض الناس أي اهتمام , ولكن بالنسبة لك أصبحت الإجابة عليها ضرورية .


وهذا ما حدث معي حينما سمعت ب " نظرية داروين " ، حيث أثارت لدي الكثير من التساؤلات : ماذا تقول هذه النظرية وماذا تبحث ،وماذا تعني كلمة تطور في العضويات , وكيف تتطور ؟ وما هي الأسانيد التي ارتكزت عليها ؟


بدأت أبحث عن هذا الموضوع بانتباه واهتمام شديدين ، وأحسست أنني لست أمام قضية تتطلب دراسة وحفظ بطريقة مدرسية للنجاح في الامتحان ، وإنما أنا أمام قضية إعتقادية لها مساس بالمنظومة الفكرية لوعي الإنسان لنفسه والكون والطبيعة والمجتمع الذي يعيش فيه , ولها مساس بالمنظومة الفكرية الموروثة من الأجيال السابقة .


وأخيرا ، جاءت الفرصة ، حيث كنت معتقلا أمنيا أقضي حكما لمدة 12 عاما في سجن المجدل في إسرائيل , فقام أحد الإخوة بدعوتنا للاستماع الى محاضرة عن نظرية داروين ، قال فيها ان الحيوانات لم توجد في حالة ثبات بل تطورت من شكل الى آخر ومن قدرات جسدية وحياتية الى أخرى حسب قانون الانتخاب الطبيعي , فعبر تاريخ طويل دام ملايين السنين تغيرت أشكالها وأحجامها وقدراتها لتتكيف مع ظروف معيشتها ، أي تطورت الى الأفضل ، وعبر هذا التاريخ الطويل كان التطور يفرض على هذه الحيوانات أن تُهمل الأعضاء التي لا تستعملها ، وبالتالي فإن هذه الأعضاء المهملة تضمر ، وفي الجانب الآخر تنمو وتقوى أعضاء يجري استعمالها ، مما يعزز لديها قدرات جديدة تساعدها في ظروف حياتها حسب بيئتها الموجودة فيها . وبهذه القدرات الجديدة تمكنت تلك الحيوانات من أن تحافظ على حياتها الى زماننا هذا ، ومن لم تُطور قدرات جديدة ، كان مصيرها الإنقراض .


وذكر أمثلة عن تطور الكائنات الحية البحرية الى برمائيات ثم الى زواحف ، والزواحف الى طيور وثدييات ، والثدييات الى أنواع متعددة من الحيوانات البياضة واللبونة ، وذكر أمثلة على أن أرجل الحصان لم تكن كما نراها اليوم ترتكز في عدوها على الإصبع الوسطى ، بل كان لها خمسة أصابع ، ولأن وسيلة الحصان للمحافظة على حياته هي الهروب من الحيوانات المفترسة ، والجري فقد تركز استناد جسمه على الأصبع الأوسط ، مما أهمل استخدام الأصابع الأخرى ، فضمرت واختفت , وكذلك الزرافة التي تتغذى على الفروع الطرية العالية من الأشجار مما أدى الى انقراض الزرافات ذات الرقاب القصيرة , وبقاء الزرافات ذات الرقاب الطويلة لأنها أقدر على الحصول على غذائها .


وهذا ينطبق على كل الحيوانات على سطح الأرض ، أي تتطور الحيوانات وتتمحور أعضاءها وتتغير ألوانها لتتكيف مع ظروف بيئتها ولتكون أقدر في الحصول على غذائها ، في نضالها من أجل البقاء حية ، والمحافظة على نوعها .


وبعد انتهاء الشارح من عرض نظرية داروين ، تصدى له أحد الحاضرين قائلا : هذه النظرية خاطئة ، وأنا على استعداد لتبيان خطأها ، فرد عليه الشارح ، كما تريد غدا نحن على استعداد للاستماع الى ما تطرحه حول الموضوع .


وفي اليوم التالي سألت الشاب ماذا عنده من معلومات ليثبت خطأ نظرية داروين ؟ فلم يكن عنده غير ثلاث كلمات وهي أن الله خلق الأرض والسموات ، وخلق النباتات والحيوانات بأشكالها الحالية كتهيئة لكي تكون مساعدة للإنسان في حياته ، فبدونها لا يستطيع الإنسان أن يعيش ، ثم خلق الله الإنسان من صلصال ونفخ فيه من روحه . ولم أسمع منه أكثر من هذا ، فقد لاحظت أن هذا الشخص ليس لديه أي مرتكز علمي يمكن أن يعرضه إثباتا لآرائه . وكل مستنداته وأفكاره مستوحاة من نظرية الخلق المذكورة في التوراة ، والتي عرفها من الكتب المدرسية 0


ان معلوماتي التاريخية عن الأحياء والعضويات وتطورها كانت بسيطة , وفي حاجة الى إثراء ليكون لي موقفا علميا ومرتكزات تاريخية وجيولوجية تمكنني من تحديد موقف علمي وصلب عن هذه النظرية التي أثارت عندي كثير من التساؤلات التي هي بحاجة الى أجوبة مقنعة . وهذا لا يمكن بدون البحث وقراءة العديد من الكتب التاريخية والجيولوجية والعلمية التي تشرح هذا الموضوع .


ولحسن حظي تم نقلي الى سجن بئر السبع الصحراوي الذي كان يحتوي على مكتبة زاخرة بالكتب العلمية والفلسفية والدينية والتاريخية وبعض الموسوعات ، مثل موسوعة الأجناس البشرية . فكانت فرصتي ، وهنا هجمت كالملهوف على هذه الكتب من أجل إيجاد أجوبة لما يعتريني من تساؤلات ..


بدأت قراءتي بطريقة غير ممنهجة ، ولكن هدفي هو المعرفة ، الثقافة . ولكن ، وبعد قراءتي لكتاب " فلسفة المادية الجدلية " – اصدار دار التقدم ، عرفت المنهاجية في القراءة , حيث عرفت من خلاله أقسام الفلسفة المادية والمثالية والفرق بينهما ، والعلاقة بين العلم والفلسفة ، أي كيف تدعم الفلسفة العلوم , وكيف تدعم العلوم الفلسفة ، وعرفت كيف تُكتسب المعلومة , ومن أي الكتب ، وكيف يتشكل وعي الإنسان ، وعرفت كيف يتطور المجتمع ، وكيف يسير التاريخ , وعرفت من أين يبدأ العلم ومن أين تبدأ الخرافة والإسطوره ، وعرفت معنى الحقيقة التي هي نقيض الضلال والخطأ , فالمادية الجدلية هي منهاج علمي للتفكير ، انها بوصلة الثقافة الإنسانية ، ولن يكون مثقفا من لم يقرأ هذا الكتاب .


إن الموقف العلمي لا يعرف العواطف ، وليس لديه من مفاهيم القداسة غير العلم , والالتزام بالعلم التزاما صارما لا يعرف الهوادة مقابل الموروث الفكري والخرافة والاسطورة , فالعلم يمحو الخرافة والخطأ دون رحمة , فالشمس حينما تسطع لا ترحم الثلوج .


كنت وكأني في صحراء , وملكت البوصلة التي تدلني على الاتجاه الذي يجب أن أسير فيه , فبدأت أُحسن اختيار الكتب والمؤلفين ، فتراكمت لدي الأفكار ذات التوجه العلمي والعقلاني , وبالمقارنة مع كومة الأفكار الغير متناسقة والموروثة من الأسرة والمجتمع والمدرسة , والتي تراكمت في دماغي نتيجة للحشو الآلي المدرسي , وجدت فرقا شاسعا بين العلم المبني على الأسانيد المنطقية الواقعية , والتي تنطلق من أن لكل شيء سبب معقول ، وبين مجموعة تواريخ وأفكار مختلطة بشكل فظ وعشوائي وفاقدة للترابط التسلسلي ، بل وإسطورية الأسانيد ، وأغلبها غير معقول حول الكون والحياة والتاريخ والعقائد الرابطة بين الناس ووجود الكائنات الحية والإنسان على هذه الأرض .


ومع تراكم المعلومات التاريخية والعلمية والفلسفية ، بزغت الشمس فأذابت الثلوج , فعند المقارنة بدأت الأفكار التي لا تستند الى المعقولية تضمحل ، لتحل محلها العقلانية في التفكير والتسلسل السببي والنتائجي .


فكانت هناك تساؤلات ، وكانت هناك أجوبة ، حيث أن التساؤل والبحث ، واعتماد المنهجية العلمية هو الأساس الذي يرشدك الى الحقيقة , ويراكم لديك معرفة يقينية قوية ومتراصة ومتسلسلة لا تستطيع أي من الأساطير اختراقها .


ان ارساء المنهجية العلمية في التفكير لا يمكن أن تجد لها سبيلا بدون الأهلية العقلية لاستيعاب الجديد والإخلاص له وللحقيقة الموضوعية ، وأن تكون جاهزا لقبولها ، وأن يكون لديك الاستعداد النفسي للتنازل والتحرر من سابقتها الموروثة من الماضي ، والتي ترتدي ثوب القداسة ، والتي تختلط بشكل عشوائي مع التقاليد ، والعادات التي ورثتها الأجيال ، جيلا بعد جيل .


من التساؤلات التي كانت مثار اهتمامي ، والتي دأبت في الوصول الى جواب شافي يقيني مدعم بالأسانيد العلمية والتاريخية , هل هناك تطور وتغير في الحياة العضوية ، أم هناك ثبوت أجساد ؟ وكيف وُجدت الحياة على الأرض ، وأصبحت على ما هي عليه ، كما نراها الآن ؟ وهل الحيوانات تتجاور فقط ولا تتغير ، ثابتة ، أم تتعاقب ، أي تتسلسل من بعضها وتتطور الى الأفضل ، وما هو سبب انقراض الكثير من الحيوانات ، وهل من الممكن أن تُوجد كائنات حية لم تكن موجودة من قبل ؟




من خلال اطلاعي على تاريخ العضويات والحفريات المكتشفة وعلم الأجنة ، والتشابه بين الحيوانات وأعضائها الداخلية ودمها ، ومن خلال التعرف على تاريخ الحيوانات اللبونه والقردة العليا وموسوعة الأجناس البشرية ، وجدت علاقة تسلسلية عضوية وتاريخية بين الحيوانات بعضها ببعض ، وبين الإنسان وأشباه الإنسان . وأن هناك آلية تطورية مرت بها الكائنات الحية عبر ملايين السنين .


ووجدت أنه " لا يمكن فهم العالم على أنه مركب من أشياء جاهزة ، بل على أنه مركب من عمليات تمر خلالها الأشياء التي تبدو في الظاهر ثابتة ، وكذلك صورها الذهنية في رؤوسنا في تغيير لا ينقطع من الوجود والفناء ". ( انجلز - مدخل في المادية الجدلية – ص51 )


وهذا الفهم وجدته في نظرية التطور لتشارلز داروين الذي أوضح أن الحيوانات على تنوعها تخضع لمبدأ " الصراع من أجل البقاء او البقاء التفاضلي" مثلا الكائنات الأسرع عدوا أو الأقوى هي الأقدر على البقاء ، ومبدأ " التغير التطوري" فما دام هناك البقاء التفاضلي وتطور الأنواع ، فمن المؤكد أن هناك آلية تساعد على التغير التطوري من نوع لآخر الا وهي "الانتخاب الطبيعي" والتي تقوم بتفضيل صفة وراثية موروثة لتصبح أكثر شيوعا في الأجيال اللاحقة والصفات الغير المفضلة المورثة تصبح شيئا فشيئا أقل شيوعا.


فالانتخاب الطبيعي هو آلية تؤثر باستمرار لتحسين مدى تأقلم الأنواع مع أوساطها، فالطفرات الوراثية الحادثة داخل النوع تكشف كيف يتم الاحتفاظ بالصفات المفيدة والتي تساعد على البقاء وهذه تسمى عملية "الانتخاب الطبيعي" ، حيث يتم تمرير هذه الجينات التي تحمل الصفات المفيدة للجيل القادم. مع مرور الوقت ، الطفرات المفيدة ليس في جزء من الجسم ، بل في أجزاء كثيرة في الجسم ، تتراكم والنتيجة هي كائن مختلف تماما (وليس مجرد اختلاف الأصلي ، وإنما هو مخلوق مختلف تماما).



فداروين قصد الانتخاب التراكمي( التطوري) ، أي أثناء التكاثر النوعي والتصارع من أجل البقاء ، كانت تظهر صفات جديدة في النوع ، فكلما ظهرت في النوع صفة جديدة إما تُثبتها الطبيعة أو ترفضها (أي هناك انتخاب)، فالظروف الطبيعية (وفرة المياه، الغذاء ، الحرارة، الضغط،..الخ) هي التي تقوم بدور المراقب الذي يحتفظ بالصفات المناسبة للحياة .


حسب داروين يحدث التطور نتيجة تغير أو طفرة في ميزات قابلة للتوريث ضمن نوع على امتداد أجيال متعاقبة ومع الوقت، يمكن أن تنتج هذه العملية ما نسميه نوع جديد من الأحياء بدءاً من نوع موجود أساسا.


بالنسبة لهذه النظرية فإن جميع الكائنات الموجودة ترتبط ببعضها البعض من خلال سلف مشترك، كنتيجة لتراكمات التغيرات التطورية عبر ملايين السنين. فالتطور هو عملية بطيئة و تدريجية كما كتب داروين "... الانتخاب الطبيعي يحدث من خلال الاستفادة من التغيرات المتعاقبة الطفيفة، والتي تحدث بخطوات متتالية و أكيدة " .
وبهذا يؤكد داروين على ان الحياة العضوية ليست ثابتة بل في تطور وأن الكائنات تتطور على مر الأجيال. و هذا هو جوهر التصور الذي عرضه داروين بمهارة فائقة في كتابه "أصل الأنواع".
لكن في هذا الكتاب لم يتعرض لتطور الإنسان ، لكن الفكرة كانت تشغل باله، فكتب كتاب أخر تحت عنوان " أصل الإنسان"، في هذا الكتاب استطاع داروين أن يثبت بأن الإنسان ليس إلا واحدا من بين الكائنات المتطورة وان الإنسان ليست له هذه الأهمية التي كان يتصورها معظم الناس في الماضي, فما هو إلا نتيجة كائنات أخرى سبقته في التطور؟. أذ يؤكد أن الدلائل كلها تُحتم علينا الاعتراف بأن الإنسان ينحدر من سلالة سابقة له في سُلم التطور، فما هو إلا نوع آخر من الحيوانات ، والدرجة الفارقة بين الإنسان والقردة العليا تكمن في تطور الدماغ , كان دماغ الإنسان منذ نصف
مليون عام يزن أقلّ من 400 غرام وهو اليوم يزن 1350 غراما، - فهو إذن أكبر دماغ حيوانيّ، فهو أكبر حتّى من دماغ الفيل قياسا إلى وزنه –وبهذا ينسف الاعتقاد الديني بعظمة الإنسان وكبريائه ومكانه المميز على سطح الأرض.




يقول داروين في كتابه الموسوعي " أصل الأنواع " : " هناك شيء يجمع الإنسان والحيوانات العليا، مثل القردة والغوريلا ، كلنا لنا نفس الحواس، ونفس البديهة، ونفس الشعور والعواطف التي تُظهر الغضب والانفعالات. نحن والحيوانات العليا، نشترك في صفات الخداع والانتقام والدعاية. الحيوانات تحب وتكره، وتشعر بالنشوة وتمارس حب الاستطلاع. تختار هي أيضا بين الخيارات المختلفة، وتستخدم ذاكرتها، وتحلم وتتخيل أشياء غير موجودة. يرتقي الفرد منها داخل مجتمعه من مرتبة دُنيا الى مرتبة عُليا" .
لكن هناك من يعارض نظرية داروين مرتكزا على مبررات غير علمية ، ويكررون أسئلة بطريقة ساذجة بقولهم : " اذا كانت القردة تطورت ، فلماذا نراها كما هي منذ زمن بعيد ، ولماذا لم يتطور القرد الى إنسان ؟


ونجيب : ان ألف أو ألفين من السنين ليس لها التأثير الملموس في التطور العضوي ، إن التطور العضوي عملية معقدة وطويلة استغرقت بون زمني طويل من الصعب تصوره ببساطه ، بل بنظرة علمية متفتحة تأخذ بالاعتبار البعد الزمنى والظروف البيئية المحيطة ونوعية الأعداء التي يجري الصراع معهم للمحافظة على البقاء .


وأن الذي قاله داروين معناه أننا لا ننحدر من الغوريلا أو الشمبانزي أو البونوبو لكن أصلنا واحد- نشترك معهم في الجد الأول- أي الإنسان والقردة العليا تنحدر من أصل واحد، أي من شجرة بيولوجية واحدة .
أن فكرة داروين عن حدوث تطور تدريجي من خلال "الانتخاب الطبيعي" لم تقابل بالترحاب في البدء وكان لها مهاجميها بقوة، لماذا ؟


أولا : لأنها ظهرت ليس كمنافسة قوية ، بل ناسفة لنظرية الخلق المتعارف عليها في الديانات الكتابية .


ثانيا : داروين كان قادرا على أن يبين الاختلاف بين الأنواع مفسراً إياه بالانتخاب الطبيعي ثم التلاؤم، إلا انه كان لديه قصورا في تفسير كيفية نشوء الاختلاف أو كيف يتم تعديل النوع عبر الأجيال ، كان لا بد من انتظار علم الوراثة على يد مندل، هذا الاكتشاف أضاف توضيحا ودعما لنظرية داروين ، وهكذا فكل من أتى بعد داروين أضافوا دعما لنظرية داروين، بإضافتهم عدة إثباتات لعملية التطور.



والنظرية بشكل عام هي بناء محكم أو منظومة تصف الظواهر الطبيعية وتكون مستندة إلى الأدلة والشواهد في الحياة العملية . وهي تعبير منظم ومصاغ ويبنى على كل الملاحظات السابقة ويمكن استخدامه في التنبؤ بالظواهر ومنطقي البناء وقابل للاختبار والتجربة ، أو الملاحظة والاستنتاج ، ولم يسبق أن تم نقضها.
اذا فنظرية داروين هي منظومة محكمة البناء وليست فرضية خيالية أو مزاجية ، ومن يعتقد أن نظرية داروين غير صحيحة , فلابد أن يبرر دعواه بأسانيد علمية ، وليس بقصص ارتدت ثوب القداسة نتيجة لقدمها التاريخي . .


فنظرية داروين في جوهرها هي إرساء فكرة التطور في الأحياء ، وأن الأنواع لا تتجاور فقط , بل تتعاقب ، وأنها ليست ثابتة ، ولن تبقى ثابتة ، وأنها تمتلك ماض وحاضر ومستقبل ، وأنها تتغير وتتطور .


وفكرة التطور تنطبق على نظرية داروين نفسها حيث لم تبق كما صاغها داروين ، بل هي نفسها تطورت، فبعد داروين تطورت العلوم و التكنولوجيا واستطاع العلماء اكتشاف دور الحمض النووي في تمرير العوامل الوراثية من جيل إلى جيل. وهذا ما أدى في منتصف القرن العشرين الى جمع و استيعاب كل المعلومات الجديدة لتحديث نظرية التطور. و الى يومنا هذا يرى علماء البيولوجيا أنه لابد من مراجعة أخرى لتحديث النظرية، والتي يسميها البعض "النسخة الثانية " من نظرية التطور.
فعلى سبيل المثال، شبه داروين التطور "بشجرة الحياة" وبان التطور ينمو مثل نمو الشجرة، تبدأ الشجرة بجذر واحد أصلي وبعدها يتفرع الى عدد لا يحصى من الجذوع المتفرعة.
أما علماء البيولوجيا المعاصرين يقولون أن التطور يشبه الشبكة أو غابة بدلا من الشجرة. حيث قال جورج فورد دوليتل، مؤيد داروين وعالم الأحياء في جامعة دالهاوزي في هاليفاكس ( نوفا سكوتيا- كندا) "إننا نفهم التطور جيد لكن التطور أكثر تعقيدا مما تصوره داروين"......


في عام 1968 قام العالم الياباني، موتو كيميورا، بطرح نظرية الحياد والتطور النووي، حيث أكتشف بأن مادة "الدي إن إيه" البروتينية، المكونة لجينات المورثات، لا تبقى في شكل ثابت، بل هي في تغير وتطور مستمر، وبأن 80% من طفرة هذه التغيرات الفجائية في جينات المورثات ليست ضارة ولا نافعة، ولكن تبقى بعضها مهمة للتخلص من الصفات الوراثية السلبية، كما أن القليل منها تلعب دورا إيجابيا في تحسين هذه الصفات وارتقائها. وقد أصبحت هذه الفرضية أحد الأعمدة الداعمة لنظرية دارون في الارتقاء مع الانتقاء الطبيعي.كما أثبتت أبحاث البروفيسور الياباني، ماريكو هاسيجاوا، بأن هذه الطفرات في جينات المورثات تنشط مع التغيرات البيئية.


فالداروينية أصبحت في عصرنا مذهبا ليس للتطور العضوي , بل تفرعت قوانينها الى كافة مناحي الحياة الفكرية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية والعلمية , فالأفكار التي لا تتناسب مع الحياة الجديدة تسقط ولو تسندها كل الأجهزة القمعية والمخابرات . والمجموعة الاجتماعية أو الحزبية اذا لم تطور نفسها وتكيف أساليبها


وآرائها مع الواقع الجديد , ستعاني من انشقاقات وتكتلات جامدة تؤدي الى تفككها واضمحلالها . وأي مؤسسة اقتصادية لا تطور مُنتجها وتعمل على تحسينه باستمرار , لا بد أن تتوقف مبيعاتها وتكسد بضاعتها , وبالتالي تغلق أبوابها .


كذلك وصلت فكرة التطور الى التكنيك العسكري , فالجيش الذي لا يمتلك التكنيك العسكري الجديد والمتطور , ولا يعمل على تطوير قدرات أفراده باستمرار , ولم يستوعب التكنولوجيا العسكرية المتطورة , فانه سيصاب بالهزيمة عند أول مواجهة مع جيش حديث التكنيك والتكتيك .


كذلك تنطبق الداروينية على الأفكار العلمية الجديدة والتي تمحو الأفكار الغير واقعية والمختلطة بالأساطير من عقول البشر , وذلك لكونها تملك قوة الجديد والمتطور والمتناسب مع الحياة في الشكل والمحتوى .


وفي الحياة الفردية من يملك قدرات فردية أكثر – كل في مجاله - يتفوق على أقرانه ويسود عليهم .


من هنا عرفت أن اللامبالاة والجهل والتحجر وعدم القدرة على فهم الترابط التطوري في العضويات ، والميوعة في الموقف اتجاه الحقيقة ، هو الأساس الذي يرتكز عليه معارضو نظرية داروين .


من هنا كان الموقف السليم ألا أكون لا مباليا ، أو حياديا ، بل مؤيدا ومصدقا لهذا العلم وهذه الاستنتاجات التي توصلت إليها نظرية داروين والتي تجيب على التساؤل الرئيسي وهو : هل هناك تطور للحياة على هذه الأرض ، أم أن الكائنات الحية ثابتة الشكل والمحتوى منذ ملايين السنين ؟

الثلاثاء، 24 ديسمبر 2013

شهر عسل جديد


سمعت من أحد الذين سافروا للخارج مراراً بأنه حدث أن حضر قاعة محكمة حيث قال لي:

ازدحمت قاعة المحكمة بالحضور، من متَهَمين ومتًهِمين، مدعين ومدعى عليهم، محامين وكتبة، قضاة وحاجب، مرافقين وفضوليين.

في قاعة المحكمة، كثيرة هي الاثنينيات، الهمسات، الإشارات، النظرات، وكثيرة هي الدعوات إلى الصمت والهدوء.

لا حد يثبت في مكانه، الكل يتحرك، يتزحزح، العيون تتغامز، ترفض، توافق، لا تدري على ماذا، لا تدري ماذا يحمل كل واحد من هموم، ما يدور في خلده من أفكار، كأنما أنت أمام خلية نحل.

وفجأة، فتح باباً جانبياً، خرج منه ثلاثة قضاة، اتخذ كل منهم مجلسه في صدر المحكمة، اتخذ وكيل النيابة مجلسه أيضاً.

سادت فترة صمت ...

هنا رفع الحاجب صوته قائلاً: محكمة.

ساد صمت، الكل شاخص في انتظار من سيبدأ الكلام أولاً، القاضي، وكيل النيابة.

استطرد الحاجب منادياً: القضية رقم "1"..... وأخذ ينظر إلى الحضور، ونادى:

مستورة عبد الستار، محفوظ عبد الحفيظ.

وهنا انتصبت على الفور امرأة من الحضور، وفي الجهة المقابلة وقف رجل وأعلن حضوره.

عدل القاضي من جلسته، رفع عينيه عن أوراق كانت أمامه، أخذ ينقل بصره يمنةً ويسرة بين الحاضرين في القاعة، ركز نظره على الرجل والمرأة طرفي القضية، ثم أدار بصره إلى وكيل النيابة الذي وقف بدوره يتلو حيثيات القضية، حيث قال:

بينما الكل شاخص إلى وكيل النيابة برهافة سمعٍ وشديد انتباه.

هذه المواطنة الجالسة أمامكم تستحق العطف والإنصاف، ورفع الظلم الواقع عليها من ذلك الرجل، وأشار إلى رجل يجلس على الجهة المقابلة.

فسأل القاضي: وما شكل الظلم؟

فأخذ وكيل النيابة يتلوا شكوى الزوجة قائلاً:

أولاً: عاشرت هذه المرأة هذا الرجل مدة عشرين عاماً حسب طلبه.

ثانياً: قامت بتحضير الطعام له بمعدل عشرون ألف مرة.

ثالثاً: قامت بغسل صحون بمعدل 100 ألف صحن.

رابعاً: عناية يومية بالمنزل طوال عشرين عاماً.

خامساً: عناية بملابس هذا الرجل بمعدل ثلاثة ألاف مرة من غسيل وكي.

لهذا أطلب تعويضاً يناسب الجهد الذي بذلته هذه المرأة المسكينة.

أحد الحضور في نفسه - حيث زوجته كثيرة الشكوى ومريضة -:كم هي امرأة قوية، تعمل كل هذا ولم تصبح هرمة، إنها بصحتها، لو أنها زوجتي لجعلتها لا تشكو من أي شيء، يا بخته، الله بيعطي الفول للي ملوش أسنان.

إحدى الحضور في نفسها: يا ريت جوزي عايش وأغسله قد هيك مرتين وأكثر، وأعمله البدع، وأضويله أصابعي شمع، وما أخليه ينام إلا على كفوف الراحة.

فأصلح القاضي من جلسته ونظر إلى الزوج قائلاً:

ما هو دفاعك عن نفسك؟

                             

فقال الزوج: أنا زوج تلك المرأة، قمت بواجباتي الزوجية على أكمل وجه، وكنت ألبي طلبات زوجتي وبيتي دون تقصير، وما قامت به من أعمال والتي وردت على لسان وكيل النيابة - قامت بها - بموافقتها السلفية على أن نعيش سوياً، وهذا يستدعي منها القيام بكل هذه الأعمال كزوجة.

وكيل النيابة في نفسه: لو أنك زوجتي لأطلقك من الصبح، أما انك زوجة مفترية.

واستطرد الزوج قائلاً: أما مطالبتها بالتعويض، فهذا يعني أنه وقع عليها ضرر، فما هو شكل الضرر؟ هل ضربتها يوماً؟ هل كسرت لها ضلعاً؟  لا ......

فأنا الأحق بالمطالبة بالتعويض، فأين دخلي المالي طوال عشرين عاماً، لقد ذهب على طلباتها، فلم أسمع منها غير كلمة، هات، جيبلي معاك !!!

فهي تتذكر حقها وتنسى حقوق غيرها، فهي أرادت مني أن أسحب عربة الحياة لوحدي، وهي تقود العربة فقط.

ومعنى مطالبتها بالتعويض، أن أبقى أشد العربة لوحدي وتصر أن لا تشاركني سحب عربة الحياة.

أحد الحضور - في نفسه -: ما إحنا كلنا زيك وساكتين، هو حد بقدر يقول لا لستات الأيام هذه.

الحاجب في نفسه: والله لو أنك مرتي ما أدخلك داري.

فقال القاضي: ما رأيك يا امرأة فيما سمعت؟

فقالت: أنا لا أطلب من التعويض غير المعاشرة الصادقة دائماً، والبسمة والعطف من هذا الزوج مقابل ما قمت به من أعمال، حيث أن الحياة معه هذه الأيام أصبحت جافة وليس بها رحيق عاطفي، ودائماً يشخط وينفر وصار عصبي في المدة الأخيرة.

أحد الحضور - في نفسه -: هذه بدها شهر عسل يصير طوله عشرين سنة، أي نعمة إن ظل شهرين بعد شهر العسل، ومرات بتخرب بعد يومين، والباين عليكي إنك أنت منبع النكد، وأنت مخلياه عصبي .... والله إنه مظلوم معاكِ.

فتوجه القاضي إلى الزوج سائلاً: وأنت، ماذا تقول بعد ما سمعت رأي زوجتك؟

فقال الزوج: آه، عرفت السبب، سنتزوج من جديد ونعيش شهر عسل جديد.

وهنا أخذ القاضي ينقل بصره بين الزوج وزوجته وابتسم  .  وتمتم: زوج عاقل.          

   

الأحد، 1 ديسمبر 2013

الإسلام لا يمكن إلا أن يكون عنيفا !!!


لم أقصد من هذا المقال سرد آيات وأحاديث تثبت أن العنف ينبع من النصوص المقدسة ومن الأقوال الصادرة عن المشايخ المسلمين ، بل ما يعنينا هنا ما يحدث ، ولماذا ؟ أي ما هو الهدف النهائي للعنف الاسلامي ، وهل يمكن للاسلام ألا يكون عنيفا ؟

من خلال تراكم الأحداث الجارية والأكثر اثارة هي أحداث العنف الجارية باسم الأديان وفتاويها ، وخاصة ممارسات الجهاديين الاسلامين في العالم ، أي ما يحدث في العالم الشرقي والعربي في أفغانستان وباكستان والعراق وسوريا ومصر واليمن والصومال ودول الصحراء الكبرى ، وما يحدث في العالم الغربي على يد الاسلاميين من عنف .

  ومن الملاحظ أن العنف في الاسلام ظاهرة تنبع من النصوص المتعددة المغروسة في ثنايا القرآن والأحاديث والفتاوي المتعددة والشواهد ومواقف المسلمين اتجاه الآخرين على طول تاريخ الاسلام منذ تكوين دولة نبي الإسلام مرورا بالخلفاء الراشدين والأمويين والعباسيين والعثمانيين الى يومنا هذا .

والسؤال : لماذا العنف الاسلامي ؟ وهل الهدف من العنف الاسلامي في زماننا هذا أن يطرح الاسلام نفسه كبديل اقتصادي واجتماعي عن الرأسمالية ؟

   من المعروف أن الأساس الاقتصادي هو جوهر تشخيص النظم والبنى الفوقية ، السياسية والفكرية والثقافية والفنية والأخلاقية ، ومن الملاحظ أن العلائم الاقتصادية السائدة في العالم الاسلامي هي علائم النظام الرأسمالي ، من حيث الملكية الخاصة والمنافسة بين الشركات وتكدس الثروة في يد أصحاب الرساميل .

 ورغم أن الرأسمالية العالمية  يزداد توحشها وطغيانها وهيمنتها وتشتيتها للعقول ، ولم تبدو علي الساحة حتي اليوم رؤية شاملة أو مذهب كلي قادر علي نقض التجربة الرأسمالية ، وهناك تشتت في اختيار البديل الحقيقي لها. نرى أن الاسلام  لا يمكن أن يكون هذا البديل .فكل العلائم تشير أن الرؤى الاسلامية الاقتصادية لا تختلف عن الأُسس الاقتصادية الرأسمالية وتتوافق معها ، وليس هناك من تصادم أساسي تناحري بين الاسلام والاقتصاد الرأسمالي .

   فمثلا إن عقيدة الاخوان المسلمين الاقتصادية القائلة بالاقتصاد الحرّ غير المقيَّد بتدخل الدولة هي أكثر انسجاماً مع المذهب النيوليبرالي من واقع الرأسمالية السائدة في ظل مبارك. و“جوهر الرؤية الاقتصادية للإخوان، إذا صنفناهم بطريقة كلاسيكية، هو الرأسمالية القصوى”، على حد قول سامح البرقي، العضو السابق في الجماعة [...] [2] .»_ ( مقال : الرأسمالية المتطرفة للاخوان – جلبير الأشقر )

  ورغم فشل التجربة السوفييتية ، إلا أنه لا تزال الاشتراكية مطروحة بقوة علي العقل العالمي بوصفها لا تزال البديل المنطقي والاقتصادي والعلمي والعملي للرأسمالية . وكل الاصلاحات واقتراحات الاصلاح للأزمات المتلاحقة التي تمر بها الرأسمالية مستوحاة من الخطط الاقتصادية للاشتراكية .  فالاشتراكية لم تُسقط النظام الرأسمالي .. نعم ، ليس لأن الرأسمالية نظام صالح للانسان والانسانية ، وليس بسبب عدم كفاية الأدلة الفكرية ، بل بسبب عدم كفاية أدوات الاسقاط وظروف الحرب الباردة بين المعسكرين التي أدت الى تضخم الأجهزة العسكرية والمخابراتية والبيروقراطية ، ووجهت المنتوج الاقتصادي السوفياتي لصالح التسلح العسكري ، ولصالح مساعدة شعوب العالم الثالث التي تناضل من أجل الاستقلال الوطني ، والتي اختارت طريقا مختلفا عن الرأسمالية .  وقد ترك التحالف الغير مقدس بين الرأسمالية العالمية ودول النفط الخليجي المحافظة أثره في اطالة عمر الرأسمالية العالمية ، حيث كانت دول الخليج تسارع في حل أزمات الدول الرأسمالية وتشاركها في تنفيذ وتمويل مخططاتها الموجهة ضد كل حراك ثوري ليس في المنطقة العربية بل وفي العالم .

 من هنا كان العنف الاسلامي له هدف جزئي يرمي الى احلال الاسلام كبديل فكري وأخلاقي مرتبط بالسلوكات الفردية ، وليس كبديل اقتصادي .

وكذلك يحاول الاسلام كأيديولوجيا أن يطرح نفسه كبديل عن المنهجية الفلسفية والعلمية في التفكير ، ويقف موقف الرفض أو التشكيك لكل ما أبدعته البشرية من منجزات ونظريات علمية ، مثل عدم مركزية الأرض وأزلية المادة والطاقة ولا نهائية الكون ووحدته المادية ، وأن الوعي نتاج اجتماعي وخاصية مادة راقية متطورة ، ونظرية النشوء والارتقاء والانتخاب الطبيعي لداروين .

  ومن المفارقات العجيبة أن الدعاة والفقهاء المسلمين أدركوا أنهم لا يستطيعون مصادمة مكتشفات العلم التجريبي ، فسارعوا انطلاقا من " ما فرطنا في الكتاب من شيء " الى حشر النصوص الدينية في العلم ، أو حشر النظريات العلمية في النصوص الدينية ، لدرجة أنهم ادعو أن القرآن موسوعة علمية ، وأن كل العلوم قال بها مسلمون وسبق الرمز اليها في القرآن .

 في ظل الصراع الطبقي فالفقراء من عمال وفلاحين الغير مالكين لوسائل انتاج الغذاء ، والأغنياء بملكياتهم وأموالهم وسلطتهم يجدون في ثنايا النصوص الدينية الاسلامية ما يبررون به مواقفهم ، مع أنهما طبقتان يقوم بينهما صراع تناحري وتقفان على فوارق وأرضية اقتصادية وفكرية متعارضة ، ونرى أن الاسلام لا يوفر الأرضية الفكرية الثورية لطبقة العمال والفقراء لكي يدافعوا بها عن حقهم في حياة حرة كريمة ، وتغيير التقسيم الجائر للمنتوج الوطني الذي بحكم القوانين الرأسمالية موجه لصالح الطبقات البرجوازية والعقارية والتجارية .

   أما في اطار صراع الحضارات  ، فالتطور الاقتصادي العالمي قد جعل من الصعوبة بمكان ايجاد علائم اقتصادية اسلامية بالمعنى الاقتصادي للكلمة ، حيث لا تستطيع أي دولة اسلامية أن تنحى بنفسها بعيدا عن الاقتصاد الرأسمالي ، بل حدث توالف بين الاسلام والرأسمالية المتوحشة التي لا تترك مجالا لقوانين ولا جمعيات حقوقية تدافع عن العمال .

من هنا فالاسلام لا يستطيع أن يميز نفسه في زمن صراع الحضارات وصراع طبقات الفقراء مع الأغنياء إلا بممارسة العنف والتمظر بالشكليات التي لها دلالات دينية ، كالحجاب والبرقع الأسود والزبيبة والدشداشة القصيرة واللحية والعمامة والانعزال ورفض كل مظاهر الحضارة الاجتماعية والسياسية والفكرية والفنية .

  إن الاسلام يعيش حالة من القصور الذاتي وعدم القدرة على مجاراة الصيرورة التطورية للمجتمع البشري في جميع مظاهرها الاجتماعية والسياسية والعلمية والفكرية والقيمية .

 إن القصور الذاتي للاسلام الذي ينطلق من نصوصه المقدسة ، قد وضعه في حالة من العدائية المركبة لحضارة هذا الزمن ، حيث يعيش المسلم وكأنه مصاب بصدمة حضارية فيرتد للماضي متجلببا بالنصوص ومظاهر الحياة الصحراوية المتخلفة ، ويصاب بحالة من اليأس في رسم ما يريد ، فيلجأ الى أشد أساليب العنف قسوة وشراسة لكي يفرض رؤاه السياسية والاجتماعية والأخلاقية .

   فالاسلام  في هذا الزمن لا يمكن إلا أن يكون عنيفا ، وبدون العنف لن يستطيع أن يميز نفسه ، وما المظاهر السلمية والاعتدالية إلا مظاهر مؤقتة خبيثة وماكرة  ، تعيش على جمرة العنف ،  وتنتظر الفرصة التي تسنح لها بالهجوم العنيف على الآخر . فالاسلام  في النظرية والتطبيق يبطن الرفض للآخر ، أيا كان الآخر .

 وأما الدعوات الى الاعتدال ومحاولة التمسك بالوسطية فهي دعوات خجولة ، وتوجه هجومها على الضالين ممن استطاعت " قاعدة بن لادن " أن تغزو عقولهم وتقنعهم أن طريق التغيير هو بممارسة العنف . فقاعدة ابن لادن واضحة  في عدائها للآخر سواء كان الغرب الكافر ، أو أنظمة الحكم الاسلامية المتعاونة مع الغرب ، أو الليبراليين والعلمانيين والمسيحيين والشيعة أو ضد أتباع بوذا وكونفوشيوس وغيرهم .

 ان الإسلام الذي يرتدي شكل الاعتدال والوسطية ، هو اسلام مُخادع ، فان كل أدبياته التربوية للأطفال في المدارس والخطب التي يلقيها وعاظ المساجد كلها ترفض الآخر وتهيء الأطفال نفسيا لممارسة العنف ، وعندما يكبرون يصبحوا جاهزين للالتحاق  بقاعدة ابن لادن .

ولا يُستثنى من هذه التفردات تحت مسمى " مسلم " إلا المؤمنين البسطاء بالدين ، وهو ايمان الوهن الجسدي ما قبل الموت ، إيمان التراث والتقاليد ، حيث يشبع لديهم الاطمئنان أن هناك غاية من وجودهم ، ويوفر لديهم العزاء والبديل الذي يعدهم بحياة سعيدة وشباب لا يشيخ بعد الموت . وتوجد مثل هذه الشريحة من المؤمنين البسطاء في كل الأديان الكتابية وغيرها .

 ونرى المسلم في العمل ، يعمل مثل الآخرين ، ولكن اذا ما حاولت اخذ رأيه في أي قضية عصرية ، كالديمقراطية والعلمانية والمساواة والحرية  والمرأة  و..و.. و ، فانك ستكتشف أن هذا الكائن يعيش بعقلية ما قبل العصور الوسطى رغم أنه يعيش بجسده في هذا العصر ويتمتع بالمكتسبات الحضارية التي انتجها التطور العلمي والحضاري البشري ، وما حياته إلا مجاراة مؤقته لما حوله من مجتمع أو قوانين أو معتقدات سياسية ، ولكنه يرفضها ويستهزئ بها ، ويتحين الفرصة للتمرد عليها .

 من هنا نجد أن العنف متأصل نظرية وتطبيقا في ثنايا وفروع الاسلام ، فقديما كان الغزو وحديثا تفعيل شعار الجهاد . فلا يمكن للإسلام في هذا العصر إلا أن يكون عنيفا منهجا وتطبيقا ، فالعنف هو الصورة التي يعلن عن نفسه بها والتي تشبع غروره ودوافعه الايمانية التي تقف من مظاهر الحضارة العلاقاتية والأخلاقية موقف الرفض والشك .

 ولكن الى أين يوجه الاسلام عنفه ؟ الاسلام يؤمن بالعالمية ولا يعترف بالحدود السياسية ولا بالمسميات القومية ولا العرقية ، لهذا فعنف الاسلام الجهادي ليس له حدود ولا موانع ، فهو موجه ضد الآخر ، أيا كان الآخر !!! ففي مصر ضد المسيحيين وضد كل من ليس معه من المسلمين ، وفي العراق وسوريا ، ضد الشيعة ، وفي الصومال ضد الحكومة الاسلامية ، وفي أفغانستان ضد الحكومة وحلفائها ومن يتعاون معها من المسلمين ، وتقوم طالبان بفرض العقوبات المستوحاة من الدين على القرى الواقعة تحت سيطرتها ، خصوصا بالنسبة للمرأة حيث تقوم بمنعها من الخروج من البيت للتعليم أو للعمل ، مما أدى الى اغلاق مدارس البنات .

  فالاسلام ضد الآخر بكل مسمياته السياسية والدينية ، فهو ضد أتباع الديانات الأخرى ، الكتابية منها والأرضية ، والنحل والفِرق المتولدة عنها بكل مسمياتها ، حتى لو كانت متفرعة من التصور الديني الاسلامي ، وضد كل مفاهيم العصر السياسية كالحرية والديمقراطية والعلمانية والليبرالية والشيوعية والمساواة والدولة المدنية ، وضد ليس المنظمات والجمعيات والأحزاب المنادية بها فقط ، بل يرفض كل العلاقات الاجتماعية والأخلاق والمظاهر المتولدة عنها .

 من هنا ، فالعنف الاسلامي هو المظهر الأكثر وضوحا في هذا العصر ، والذي يلغي كل النداءات للجنوح بالاسلام نحو الوسطية والاعتدال ، فمن هذه الوسطية وذاك الاعتدال وأموالهما نمت القاعدة وترعرعت وانتشرت وأفرخت وتأثرت بها جميع دول العالم .

الخميس، 21 نوفمبر 2013

الكاتب بين الابداع والأيديولوجيا !!!


حدث أن التقيت مع  مجموعة من الكُتاب فقررنا القيام بمحاولة لتجميع الكُتاب في تجمع يضم عددا من الكُتاب من مختلف الأعمار  في ملتقى يطرح فيه كل كاتب آخر إبداعاته  ومنتجاته الأدبية من رواية او  قصة قصيرة أو شعر .

 ثم جاءت الخطوة  الأولى , وهي اختيار اسم لهذا التجمع الجديد للكتّاب. فاجتمعنا في مبنى " جمعية الثقافة والفكر الحر " في مدينة خانيونس التي انتصر المسئولين فيها لهذه الفكرة وأبدوا استعدادهم لتهيئة المكان المناسب لهذا الغرض وتمويل الاجتماعات الدورية بما يهيء الجو المناسب لاجتماعات الكتاب .

 كانت الجلسة الأولى لاختيار الاسم وتحديد المواعيد وتوضيح الهدف من هذا التجمع . وفعلا , جرى طرح عدة مسميات , اخترنا منها اسما للتجمع وهو " ملتقى الابداع " . ثم جرى الاتفاق على تحديد مواعيد الإلتقاء , واتفقنا على أن تكون نصف شهرية . ثم وصلنا الى الهدف الضمنى من هذا الملتقى وهو التعرف عن قرب على آخر الإبداعات الأدبية المتنوعة , وتشجيع الأقلام الشابة لعرض إبداعاتهم من شعر وقصة قصيرة ورواية وغيرها من فنون الأدب .

   حتى هذه اللحظة , كل شيء سار على ما يُرام , واذ بأحد الحاضرين يطلب الاذن للحديث , ولما سُمح له قال : انا لي تنويه مهم في هذه الاجتماعات , فقال له مدير الاجتماع , ما هو ؟ قال : يجب على كل الكُتاب الالتزام بالدين في كل ما  يطرح في هذه الجلسات .

   وهنا سأله مدير الجلسة طالبا منه أن يوضح طلبه هذا  ومقصده , بأنه هل يقصد فض الاجتماع وأداء الصلاة حينما يأتي ميعادها , أو أن يلتزم الكُتاب والشعراء بالدين في إنتاجهم الأدبي ؟

   فما كان من هذا الشخص إلا أن  قال : أقصد أن  على الجميع أن لا يطرحوا في اجتماعات الملتقى أي إنتاج أدبي يتعارض مع الدين , أي يجب أن لا يتعارض مع النصوص الدينية .

   فقلت في نفسي , إن هذا حُكم على الملتقى بالموت قبل أن يُولد , إن هذا يريد أن يسجن المارد داخل الزجاجة ويغلق عليه . فالإبداع كالمارد , لا يقبل بالقيود .

  فأخذت الاذن للمشاركة لأنه لا بد من توضيح الموقف بجلاء قبل البداية , فقلت : إن للإنتاج الأدبي متطلباته الفنية لكل شكل من روافد الأدب التي لا يجب ان يحيد عنها كل ابداع أدبي , وبها يقاس قوة الإبداع وجزالته من ركاكته , وجاذبيته .

   أما الموضوع الذي يختاره الأديب في إبداعه فهو حر طليق له الحرية أن يختار ما شاء من مظاهر هذا الكون المادي والميتافيزيقي , وحتى المجتمع ومكوناته الفوقية والتحتية .وحتى أدق مكونات المجتمع وهي المرأة وإنتباهاتها العاطفية . فكل شيء ممكن أن يلتزم بقيود إلا الأدب , إلا الإبداع الأدبي , فليس له قيود وليس له سقف , فإن حلّق في الفضاء  فلن يعيقه حدود لتحليقه , وان دخل في كهف , فلن يرهبه الظلام , وان سار في التاريخ فلن ترهبه سيوف الغزاة , وان دخل دير فلن ترهبه أجراس الكنيسة  وان دخل في مسجد فلن تخدعه عمامة شيخ  . فالأدب لا يعترف بقيود دين ولا سلطة ولا ميراث ولا جغرافية . ان روعة الإبداع ومتعته في كونه خارج عن السيطرة , فهو خلاق يخترق كل الحدود ويدخل كل الميادين والحدائق الغناء ولا يعترف بظلمة السجن ولا بسوط الجلاد .

 وبعد أن يطرح الابداع مقالته ، يسمح للآخر بالمناقشة والنقد ، وهذا هو المناخ الرحب لتلاقح الآراء وتفاعلها .

 ان وضع سقف للإبداع ضمن دين أو أيديولوجيا هو قتل للإبداع الأدبي , هو تقزيم للأدب في الشكل والموضوع .

  أما كيف تدخل الأيديولوجيا في الأدب , فإن الكتاب ينحدرون من أصول طبقية اجتماعية مختلفة , فكل كاتب يُسطر إنتباهاته وإبداعاته الأدبية متأثراً بموقعه الاجتماعي , وآماله وطموحاته تكون من خلال هذا الموقع . أما الأحلام فقد تسحب الكاتب الى مواقع شتى مختلطة وغير ملتزمة بحدود طبقته الاجتماعية .

   وهذا التنوع والاختلاف في الإبداعات الأدبية يولد ليس غزارة في الانتاج الأدبي بل وجاذبية منقطعة النظير , بعكس لو كان الكاتب واقع تحت ضغط حاجة أو سلطة قهرية أو أيديولوجية دينية تجعله يشذب من إبداعاته , أما أن يكون المبدع أو الكاتب  متأثرا بهذه الأيديولوجية او تلك بمليء إرادته ضمن إيماناته الثقافية , فمعنى هذا أنه هو من وضع نفسه ضمن هذا القالب وحدد مسيرته الأدبية من خلاله .

  ان الغزارة والتنوع  في الإبداع الأدبي تجعل الأيديولوجيات تتلقف ما يخدم أدبياتها من الإنتاج الأدبي . كما يحدث في الاختراعات العلمية والأحداث اليومية في الحياة الاجتماعية التي تتلقفها الأيديولوجيات وتنشرها لتدعيم الثقة بمنهجها أمام  مؤيديها  وأنصارها .

   ولكن هل هناك فرق بين الكاتب والمبدع في الأدب ؟

   الجواب : نعم , فليس كل كاتب , مُبدع . ولكن كل مُبدع كاتب . لماذا ؟ لأن الكاتب قد يكون نقلي , أي ينقل عدة أفكار من كُتاب آخرين ويحشرها في موضوع , ولا يزيد عليه غير أن يضع له اسما .فليس في كتابته أفكارا جديدة , إنها تكرار بمسمى مختلف . ولكن يوجهه في اتجاه معين , لخدمة غرض معين . كما يحدث في الكتابات  الدينية .

 أما المبدع , فأفكاره فيها تجديد وخلق وابداع , وتخلو من النقل , وقد تتشابه المواضيع عند المبدعين , ولكن بأساليب جديدة ولها رنين مختلف , وتلقى القبول والجاذبية والمتعة عند سامعيها .

 والكاتب مقيد بالهدف الذي يكتب من أجله , وقد يخدم مصلحة أو جهة معينه يوجه كتابته نحوها ويسلط الضوء عليها .

 أما المبدع الأدبي فلا هدف عنده غير الجمهور , غير المتعة الأدبية , فهو يُخرج لنا مقطوعته الأدبية  بشكل لم يسبقه أحدا له , بحلة جديدة واتساق تناغمي جديد .

 ولكن لا يمكن أن ننكر أنه لا يوجد فكر مجرد , منزه عن الغرض , غير هادف . فكل الكتاب سواء نقليين أو مبدعين , يكتبون ونستطيع أن نتلمس أن هناك  غرضا ما  من هذا ,وهو تأييد أو رفض لفكرة ما والنتيجة لصالح أو ضد , من هنا فالكتابة وإن لم يشعر بها الكاتب هي مع , وضد .
 فاذا كان الموضوع يسير مع العلم والتطور الاجتماعي فهو مع التقدم والتطور واذا كانت النتيجة تصب في صالح الأصولية والغيبية فهي  نقلية , قبليه ‘ خلفية هادفة الى عكس المسيرة الاجتماعية الى الوراء ، الى الماضي .

  من هنا فهناك سبيلان لا ثالث لهما للكاتب والمفكر , هو وعيه أن يكون مع التحرر من كل أشكال ظلم الانسان لأخيه الانسان أو انه بكتابته هذه يكرس هذا المنهج في المجتمعات الانسانية . أما أن يقول كاتب أنه حيادي وليس مع هذا ولا ذاك فهو في هذا الموقف مع سيادة الخطأ  ويقف في صف العفوية والسذاجة ولو لم يعترف صراحة بذلك , فالحيادية الكتابية إما جهل أو انتهازية تخفي مصلحة غير منزهة عن الغرض .  فالكاتب يجب أن يعي نتيجة كتابته الى أين تصب . لأن الآراء يتلقفها الجميع وتؤثر في المجتمع , والأفكار اذا حملها الشخص وتعممَت في المجموع , تصبح قوة اجتماعية تضر أو تنفع في الحراك الاجتماعي فيجب عدم الخلط بين الوعي في الكتابة وبين عشوائيتها , أو بالأحرى سذاجتها .

   وفي  الفلسفة  يجب  عدم  الخلط بين  المنهج  المادي والمنهج المثالي في الكتابة , وفي الحياة يجب عدم الخلط بين العلم والخرافة  . وفي المجتمع ، يجب عدم الخلط بين طموحات الفقراء وآمالهم في مجتمع أفضل ، وبين مساعي الأغنياء لتضخيم ثرواتهم ونسيان الجماهير الغفيرة الكادحة من أجل لقمة العيش .

فمن العجب العجاب ان نري كاتبا ينعت نفسه بأنه مع العلم والعلماء وترى كتاباته محشوة بالخرافات والأساطير وقصص اختطاف الجن لبني البشر .

 من هنا فالكتابة لها التأثير القوي في حياة الناس سواء كانت شعرا أو نثرا , ويجب أن تُوجه لخدمة قيم الحق والخير والجمال والفقراء .

الأحد، 10 نوفمبر 2013

رجل صامت جدا !!!


            العادية مظهر لا يثير الاهتمام ،هأنذا ادخل يوماً التقت فيه جميع الفصول ،كان كل شيء يتحرك ،وانظر إلى ما حولي بعيون غزال نائم .ها هي الشمس ترسل أشعتها ،لم تستطع إيقاظي من صمت ليلي ،مع أن أشعة الشمس تثير الحركة حتى في ديدان الأرض ،أما أنا فكائن مختلف لا تثيرني الأشعة الكونية ولا صرخات حبلى على وشك الولادة ،ولكن ربما أنين عذابات هذا الزمان .                    
 
    ما لي في هذا اليوم يلفني شعور خاص ،ذو شجون ،لكن بصمت ،انزلقت إلى الشارع ،فعانقت قدماي الرصيف ولوت عنقي السارية ،انشدت عيناي إلى شباك عبر حديقة منزل ،رأيتها ترمقني بابتسامة ،فأبتسم ........صدم حذائي حجراً صغيراً كاد يلقيني أرضاً ،لكنه ابتعد عن طريقي من شدة الصدمة .                                                                                                     
انحدرت عن الرصيف قاصداً الرصيف المقابل ،اصطدمت أذناي بأبواق السيارات ،تعثرت خطواتي وتلولوت كما الثعبان ،رن المحمول المشدود إلى حزامي،حسبت أن الرنين لغيري ،هيه ،لم أسمع أحداُ يرد ،تذكرت أنني ذاهب للعمل ،وقد تأخرت ،ربما صديق ما يستنهضني من نوم أو يحضني على السرعة ،لكنه صمت في كل شيء ،حتى العقل صمت ،لماذا ؟وأين ؟ وماذا بعد ؟ آه دماغي مضغوط بين فكي ملزمة حداد .                                                                                            
 
      أسير ،أشعر أن قدميّ على وشك خيانتي ،أصابهما الوهن ،يبدو أنهما على وشك التمرد عن حمل هذا الجسد ،‘إنهما تشكوان من أحمال زائدة ،ماذا جرى ؟ الجسم كما هو البارحة ،حتى العشاء كان خفيفاً جداً ،كل شيء كما هو ،...   فربما دماغي هو الذي زاد ثقله !! زادت سرحاته ،زادت همومه ،فناءت به الأحمال .                                                                                         
 
     آه لم يزد وزن دماغي مادياً ،لكن قدمي أحستا بثقل ما ،وكأنهما تحملان جسداً إضافياً رغم أنهما لا تشكوان من وهن زمني ولا إجهاد حركي ،ولكنهما أعلنتا التظلم .                                          
 
    هذا الشعور جعلني أسير في حالة من اللا إنتباه ،أكثر قرباً من نصف غيبوبة ،وعلى غير توقع رأيتها ،هي ،هي رغم البعد الزمني بين ما كان والآن ،فإليها عيناي انشدت ،وتسمرت قدماي ،إنها زميلة الجامعة ،هي ،تمر من أمامي ،إنها في السيارة ،بجانب أحدهم وأطفال في المقعد الخلفي . هل تستطيع إيقافها والحديث معها ؟... في الماضي كان نعم ... أما الآن ...!! فمحظور !! بل محظور مكعب .                                                                                                      
 مرت ... ابتعدت وغابت مع الماضي ... كما غابت من قبل . ماذا جرى ؟ أشعر بأنني  تسمرت في مكاني  لا أستطيع الحراك ،إلى الأمام ،إلى الخلف ... هيه ...هل سأبقى مشدوهاً ،... لن يعيرني  أحد أي انتباه ،إذن علي بالسير ،والسير لكن بصمت .   آه ... يا زمن ما أكثر ما تبيد من أحلام !!... إذن ليس أمامي إلا الصمت .        
  مشيت بجانب سوق الخضار ،على جانب الطريق عجوز تصنع هرماً من بيض ، وأخرى تعقد شبرة بنتها على أرجل بطة ،اجتاحتني رغبة أن أشتري بعض البيض البلدي والبطة .لكن كيف هل أحمل معي بيضاً وبطة إلى العمل ؟...بالطبع لا !! سأطلب من المرأتين أن تنتظراني حتى أعود من العمل بعد الظهر وأشتري منهما البطة والبيض .                                                                
    فقلت في نفسي ..ماذا لو قلت لهما هذا ؟... لابد أنهما ستتهماني بالخبل ،وربما الجنون ،ولن تقبلا مشورتي ،إذا علي بالصمت ،وعفة اللسان ،وأحفظ أذنيّ من التقريع ،ويدايّ من الإجهاد .                
    
     لا..لا ان يديّ تحمل شيئاً ،آه كتاب !! فخير لي  أني أحمل شيئاً بدلاً من أن أسير خالي اليدين، فخالي اليدين خالي الرأس ،يسير ،يروح ،يغدو ،يسرع ،يغير الاتجاه ،فهو بلا هدف .فأن تحمل شيئاً في يدك ،معناه أن أمامك هدف تسير إليه ،أو منفعة تسير إليك ،وأحسن المحمولات كتاب أو غذاء فالكتاب غذاء للعقل ، والغذاء مصيره للمعدة فالجسم . أن أحمل شيئاً في يدي يعني أنني منشغل بشيء ما وأن وقتي لا يضيع سدى ولو كنت صامتاً طول النهار .                                                         
   
    أن تصمت حتى في طريق يطفح بالصراخ ،بالغوغاء ،خير لك من التناغم والمجاراة ،دع الآخرين يغنون كما يشاءون ،فكل يغني على ليلاه ،أما أنا فالصمت بعين غزلانية والاغتراب هو أغنيتي ،في الليل ،في الصباح ،في الشارع ،لا يكسر صمتي غير العمل ،فالعمل حركة ،انطلاق، تدارك الأحداث قبل حدوثها ،انفلات من عالم الصمت ،إلى الحرية ،ولكن أي حرية ؟حرية الكلمة، حرية الحب ،حرية الصراخ والضحك والدعاية والدعابة .ولكن كل هذا لا يساوي ذرة صمت .             
    
    الصمت في البيت شيء طبيعي ،لاستيضاح فكرة عششت في دماغي ويشوبها بعض الالتباس، تحتاج لوقفة صمت مع النفس .والصمت كمقدمة للبدء في العمل .                                                       
     
    أما الصمت وحولي خلية نحل ،بشر من كل حدب وصوب ،سيارات ،منبهات ،ضحكات، وحمار ينهق بينما هو مشدود إلى العربة بجنازير عن يمينه وشماله واصطدام من أحد المشاة يكاد يطرحني أرضاً ،وكل هذا لا يكسر صمتي ؟ إذن........ علي التوجه إلى مستشفى ،فقنوات جسدي الحسية تحتاج لاختبار صلاحيتها .                                                                                    
    والآن وقد اقتربت من المؤسسة التي أعمل بها ،فعلي رد التحية على الزملاء ،أو أنسل إلى كرسي كالقط المذنب الذي يفعل الجريمة وينسل ،كأن أحداً لا يراه ،وأبقى متشحاً بصمتي ،نائياً بنفسي عن الاندهاش ،الصعود ،الانحدار ،ولا حتى عن التفكير في ابعد مما تراه عيناي وما تحمله الأرفف من كتب ،فقلمي أصبح أعرج في الكتابة ،وتوقف عن تكملة روايتي ( امرأة في ضيافتي ) ،وقريحتي الشعرية نضبت ،فلم أستطع تكملة ديواني الجديد ( حينما أفكر وحيداً ) .                                             
 
   وهنا لا بد من التمرد، ولكن التمرد على ماذا، على ذاتي التي أحس أحياناً أنها تشكل قيداً لما يعتريني من خواطر، أتمرد على الجغرافيا، أتمرد على أفكار من الماضي لازالت تطل برأسها من آن لآخر لتعيق الاسترسال المنطقي في التفكير، أتمرد على حاضر ذي سقف متدن لا يتسع حتى لعقل صبي لم يتجاوز العقد الأول من عمره بقليل. وأي أشكال التمرد، العفوي، الآني، سريع الانطفاء، أم التمرد المحكوم بأهداف، بطموحات تدفع لها كل الغالي والنفيس من أجل تحقيقها .    

إذن ،علي بالصمت ،فلا أستطيع التمرد فأي تمرد مني محكوم بقمقم الحدود الزمانية والمكانية وفوق هذا , السياسية  , إذا ما فكرت بتغيير الجغرافية ،أو الخروج من قمقم الاحتلال ، أو تحاول تجاهل   أجهزة المخابرات والشرطة والسجون ،أو اهمال قمقم العرف والعادة وطاعة أولي الأمر والموروثات الفكرية والسلوكية .       
هل أستطيع  .. اذا لابد من الصمت  !!                                         
 ومن جليد الصمت أتساءل هل تستطيع دولة أن تتمرد على العولمة ؟ بالطبع لا !! وهل يستطيع فرد أن يتمرد على الدولة ؟ ...ولما كان الجواب لا !!......خصوصاً إذا كنت موظفاً ومشدوداً بجنازير إلى عربة الزوجة والأولاد ،لا تستطيع أن تعود آخر الشهر إلى المنزل بدون راتب ،وفي أحسن الأحوال تتحول إلى نصف ميت بإحالتك إلى التقاعد المبكر ،إذن يجب التناغم مع القطيع ،السير بصمت ،وإلا فأنت الإبليس الأكبر .وأن تنأى بصمتك في الزاوية ملتصقاً بكرسي وطاولة في المقهى الصغير تحتسي فنجان القهوة المحترقة وتأبى أن تحترق لوحدها ،بل تنشر حريقها إلى معدتك .                     
 اذا سأبقى متشحاً بصمتي ،وواحديتي ،التي أأبى أن تمس حتى من زملاء العمل والمدير وأخبار الاجتياحات وهدم البيوت .                                                                            
 زاد الاقتراب ،وخطواتي ليست بالسرعة المعهودة ،أمتار وأدخل محيط العمل ،وينكسر الصمت أمتار تفصلني بين العادية ،السكون ،وربما الهجوع ،وبين الضوضاء والصراخ والوجوه المنشطرة بين الضحك والعبوس ،وصوت المذياع وأخبار الأرض القريبة والبعيدة خلف الأسلاك الشائكة ،خلف الأسوار العالية لمزارع المستوطنات .                                                                
 أمتار وأدخل محيط العمل ،وينكسر الصمت ...لا ...لا ...استدرت عائداً إلى المنزل عبر أقرب طريق وحدثت نفسي ،سأهاتف المدير المسئول لعمل إجازة مرضية .                                             
 وصلت المنزل فلفني صمت قاتم ،هاجمني السؤال ...ماذا أنا فاعل غداً ؟..... هل سأبقى  أسير الصمت  , وأكون الرجل الصامت جدا  .. جدا ؟ .    

ماهي الدولة ؟؟هل للدولة دين ؟

لا تزال هناك صعوبات في تعريف الدولة , فالدولة مشتقة من كلمة STATUS أي حالة أو وضع , لذلك تعددت التعريفات الغير متفق على جزئياتها من قبل الجم...