هذه هي الحقيقة
أنهى
الدكتور معاوية فحص آخر مريض جاء لاستشارته، فانتابه إحساس بالتحرر من معطفه الأبيض،
جال بنظره خارج غرفة الفحص عبر النافذة , وما أن استدار , وإذ به أمام صديقه
الحميم سفيان الذي يعمل في مصلحة البريد – وهو مثقف مغرم بالقراءة و في حالة عراك مع
القضايا الفلسفية – ويحلو للدكتور الاستماع إلى حديثه كلما سنحت له الفرصة.
كانت الصداقة بينهما حميمة لها امتداد
زماني طوال مراحل الدراسة السابقة لدرجة أن الدكتور يدخل في الحديث معه وفي أخطر
المواضيع بدون مقدمات.
فما أن شاهده أمامه حتى أحس برغبة في الانطلاق
الى عالم آخر غير عالم المرضى والأدوية فعاجله
بصوته الهادئ الرتيب: أنت تعلم بطبيعة الحال أن كل ما في هذا العالم لا معنى له ،
حتى الاحساس بالمتعة يبدو كاذبا في أغلب الأحيان ، إذا استثنينا المظاهر الروحية
السامية للعقل البشري. فالعقل هو السمة المركزية التي تجعل هناك فرقا بين الإنسان والحيوان ، لأنه هو الذي يهبنا تلك
اللمسة السامية من الطبيعة الروحية التي نتميز بها ،ويمنحنا القناعة الى أن نهدأ
الى نتائجه في أغلب الأحيان .وأحيانا يجعلنا نعتقد أنه يحل مسائل معقدة تخص المجهول والخلود لدرجة أننا نصدق أنه يحل إلي حد ما، محل
الخلود الذي لا وجود له .
وإذا سلمنا بهذه المقدمة استطعنا أن نقول : أن
العقل هو المنبع الوحيد للمتعة , ولو من بعيد ، نعم إن لدينا كتبنا التي نبني فيها
قصورنا , ونفرغ فيها آمالنا ورغباتنا , ولكنها لا يمكن أن تحل محل الحديث والاتصال
الشخصي. وإذا كانت الكتب هي الموسيقى المكتوبة فإن الحديث هو الغناء."هذه هي
الحقيقة"
وفي هذه الأثناء أقبلت حليمة الخادمة من جهة
المطبخ محضرة الشاي وعلى وجهها إمارة حزن صامت ، كانت حليمة في العقد الرابع من
العمر , اٍلا أن هموم الحياة وثقلها جعلتها تبدو
وكأنها في العقد السادس من العمر . وضعت صينية الشاي على الطاولة القريبة ,
بينما لم يقطع الدكتور حديثه مع مُحدثه , فوقفت بالباب واضعة خدها على قبضة يدها وقد شدها ما يقال.
وهنا يتنهد سفيان
ويقول : "ولعلك لا تزال تظن أن الناس في أيامنا هذه لهم عقول !" وينساق
إلى الكلام عن الأزمنة الماضية حين كانت الحياة بسيطة بهيجة، تفيض بالمتعة، حين
كانت الناس تضع الشرف والصداقة فوق كل اعتبار. فكان الناس يقرضون بعضهم بعضا دون إيصالات،
وكانوا يعتبرون من النذالة ألا يمد الصديق إلى صديقه يد المعونة عند الحاجة، أما
المغامرات والمناوشات والصداقة والنساء
،فحدث عنها ولا حرج ، وشاطئ غزة يا له من شاطئ ،انه غزير الانتاج , والشارع والمدرسة , والمركز الصحي , وحتى زوجة الحاكم
،كان يقال أنها على علاقة مع أحد الضباط الشباب.
وهنا هزت حليمة رأسها وقالت معلقة على
ما سمعت :"الله يسامح الناس فقد كانوا يعملوا كل حاجة على طبيعتهم، كان كل
شيء مخلوط مع بعضه".
كان الدكتور معاوية
يصغي إلى جليسه سفيان دون أن يلقي بالا إلى المعاني البعيدة لكلماته ، فقد كان
يفكر في شيء آخر وهو يرتشف كوب الشاي.
انطلق فجأة مقاطعاً سفيان وقال : كثيرا ما
احلم بالناس الأذكياء فأعود بالذكرى الى
سنين الدراسة والكتب والمدرسين فيتركز الذهن على أقرب الزملاء في السنين الدراسية
الأخيرة ، فتنتابني رغبة أن أراهم وأتحدث معهم حيث لدي رغبة في التعرف على ما
وصلوا اليه بعد هذه السنين من الدراسة والكد , وهل وجدوا ذاتهم , وحققوا آمالهم ,
وما هي مقاييسهم للسعادة في هذه الحياة . والحقيقة أن والدي رباني فأحسن تربيتي
وتعليمي، ولكنه كان واقعا تحت تأثير الأفكار السائدة في زمانه، وكثيرا ما يجول
بخاطري أن أصبح شيئا آخر غير ما أنا فيه لو لم أطعه.
ولا
زال رنين صوته في أُذني
حينما كان يقول : اسمع يا معاوية , بدي اٍياك
دكتور , دكتور قد الدنيا , أنا
بستنى اليوم اٍللي أشوف
فيه القارمة على باب الدار مكتوب عليها :
" بيت الدكتور معاوية "
.
ويستكمل الدكتور معاوية حديثه السابق مع محدثه قائلا :
نعم لا شك أن الانسان غير خالد , وأسمى شيء في
الانسان هو العقل ,ولكن العقل غير خالد
أيضا ، وإنما هو غابر ككل شيء آخر في هذا الوجود . ولكن دعني أوضح لك لماذا أجعل
له كل هذه المنزلة، فالحياة شرك كريه. وبمجرد أن يقترب الشخص المفكر من النضوج ويصبح
قادرا على التفكير الواعي فانه لا يستطيع
الخلاص منه بأي وسيلة من الوسائل. وإذا فكرت في الأمر وجدت أن الإنسان يُقذف إلى
الوجود من حالة اللا وجود دون إرادة منه ، ولأسباب عرضية بحتة ... ولماذا ؟
انه إذا حاول أن يستنبط معنى الوجود
وهدفه فإنه إما ألا يحصل على أي جواب وإما أن تنهال عليه الترهات والأباطيل من كل جانب، وربما يهرب الى الخرافة ليريح عقله بعض الشيء , انه
يطرق الباب، فلا يفتحه له أحد ثم يدهمه الموت على غير إرادة منه أيضا. وإذا كان
السجناء الذين جمع بينهم سوء الطالع المشترك يشعرون بأنهم اسعد
حالا كلما كانوا سويا، ويعز عليهم فراق بعضهم البعض حتى وهم بين أسوار السجن . ولكن هذه هي حال البشر , إنهم يتجاذبون الأحاديث فيما بينهم عن كل شيء في العالم حتى يصلوا الى أدق الأمور , ويغوصون فيها
تحليلا وتعميما . ولا يلاحظون أنهم داخل الشرك، فيحاولون أن يقضوا وقتهم في تبادل
الأفكار السياسية الطليقة. وعلى هذا الاعتبار يعد العقل منبع رضى لا مثيل له, وفي
نفس الوقت ملجأ وسلوى عظيم لهم.
كان الدكتور يحاول أن
تلتقي عيناه بعيني محدثه ، ويواصل الكلام بصوته الهادئ الهياب عن الأشخاص الأذكياء
ومتعة الحديث معهم. وكان سفيان يستمع إلى الدكتور بإصغاء تام دون أن ينسى التعليق
على كلامه من حين لحين بجملته المعهودة :"هذه هي الحقيقة".
ولكن هذه المرة
أتبعها بسؤال : "ولكن
ألا تؤمن بالخلود ؟" فيرد عليه الدكتور معاوية ،كلا يا عزيزي سفيان أنا لا
أؤمن بذلك ولا أجد سببا يدعوني إلى الإيمان به.
فيعقب سفيان قائلا :
الحقيقة أني أنا أيضا أشك في ذلك ،ولكني من جهة أخرى أشعر بأني لن أموت أبدا ،
وأراني في بعض الأحيان أقول لنفسي :
"هيه أيها الرجل
الهرم، لقد آن الأوان لتموت"
ولكن صوتاً خافتاً
يهمس لي :"لا تصدق ذلك إنك لن تموت أبدا"
فتمتم الدكتور معاوية
:"يا له من قدر أجوف ذلك الذي قذف بنا إلى هنا ، وأسوأ شيء أننا سنضطر إلى
الموت هنا أيضا".
وهنا يتململ الصديق
سفيان للرحيل فيودعه الدكتور وعلى وجهه ابتسامة حنان واحترام، ويردد : " هذه
هي الحقيقة".
**************
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق