الأحد، 9 نوفمبر 2014

الانسياق خلف الخرافة


مع الطغيان الجارف للعلم والعلوم يظن الكثير من الناس أن عصر الخرافة انتهى ، ويظنون أيضا أن الخرافة والأساطير مظهر فكري طارئ على الشعوب ، وذلك لاعتقادهم أن التفكير المنطقي والعقلاني هو الأصل ، وأنه وُجد مع الانسان منذ خروجه من عالم الوحشية والبربرية الى عالم الأنسنة . ولكن أمثال هذه الظنون غير صحيحة . 
إن البنية العقلية العميقة لبني الانسان هي بنية خرافية بامتياز ، والخرافة والاسطورة سابقة في وجودها على كل من العلم والفلسفة معا ، إذ لما كان الانسان موجود طبيعي - مثله مثل جميع الكائنات الحية - ويعيش في أحضان الطبيعة ، ولم يُصدَّر اليها من الخارج ، لذا كان لمظاهر الطبيعة المتعددة الأشكال والتي أثارت الدهشة والفضولية لدى الانسان ، أثرا كبيرا في رسم انطباعات متعددة في دماغه الجنيني النشأة والتفاعل . 
إن الفضولية والخوف والجهل والأحلام والصراع من أجل البقاء ، قد خلقت لدى الانسان شوقا عارما لتفسير وايجاد مبررات لما يجري حوله في الطبيعة ، كما خلقت لدى الانسان نزوعا قويا لاجتراح عتمة المستقبل والمصير ، وعلى طول التاريخ كان نزوعه هذا في ازدياد وتشعب ، ولم يكن لديه من العلم ما يكفي لمجموع التساؤلات وهذه النوازع ، لهذا وجد في الخرافات والأساطير وسائل مثالية لبلوغ ما يصبو إليه . 
فالخرافات عبارة عن أفكار وممارسات وروايات وعادات لا تستند الى تسويغ عقلي ، ولا تخضع لأي مفهوم علمي ، لا على مستوى النظرية ولا على مستوى التطبيق ، ومن ثم فإنها بعيدة عن المنطق وعن الموضوعية ، ولا يستطيع الذي يتمتع بتفكير منطقي عال أن يعصم ذهنه من الخرافة إذا لم يكن يملك حصيلة ووفرة من المعلومات العلمية . 
إن المنطق والمنهجية والتجربة هي القواعد الفكرية والعملية التي نستنتج بواسطتها المعارف اليقينية وتساعدنا في الخروج من إطار المسلمات المعرفية السابقة المختلطة بالخرافة والعادة .
إن الخرافة تستقي وجودها وتتعزز من مجموعة من الأوهام التي يحتفظ بها المجتمع بسبب ما عاناه من جهل وفقدان للمنهجية العلمية وتخلف سياسي واجتماعي واقتصادي .
إن هناك من يعتقد أن الميراث الفكري المقدس خال من الخرافات والأساطير . إن مراقبة لسلوك الناس في مجتمع تسيطر عليه منظومة من المواريث نجد أنها مختلطة بكثير من الروايات والحكايات ، ومع الزمن ارتدت صفة القداسة وأصبحت من المسلمات التي لا يرقى اليها الشك ، مثل عادات الزواج والقضاء العشائري والثأر وتصورات كثيرة خاطئة عن الأرض والسماء والجبال والبحار والأنهار والفيضان والزلازل . 
من هنا نرى أن الخرافة والسحر والشعوذة وقراءة الكف والفنجان والايمان بقوة وتأثير النصوص المقدسة على حاضر الانسان ومستقبله ورزقة ونجاح عمله ، أكثر من تأثير علم الشخص وواقعية التفكير ومنهجية التخطيط ، ولا نوعية البلد الذي يعيش فيها الشخص والتي لديها التقدير والتشجيع للعلم والعلماء . 
وقد لاحظ علماء الاجتماع أن انتشار الخرافة يتسع كلما زادت درجة الجهل والقهر والتسلط والخوف وفقدان الأمان، كل هذا يُورث العجز ويزرع فقدان الثقة بالنفس عند الأجيال الناشئة ، وينأى بالإنسان عن البحث الموضوعي والمنهجي لمشكلاته ، مما يجعله يلجأ الى الخرافة بوصفها أداة جيدة وسهلة لتفسير الظواهر . 
إن عولمة الاتصالات لها وجهان ليس نشر النظريات العلمية والعلم بآخر المكتشفات والمخترعات ، بل إن إتاحة وسائل الاتصال للصغير والكبير وللأُمي والمتعلم ساعد على نشر الكثير من الخرافات عن طريق المواقع التي تعالج بالنصوص المقدسة والطلاسم السحرية واشاعة الكثير من الوصفات العلاجية وفوائد الأعشاب ويتبادلون الكثير عما يسمونه براهين على قدرة الخالق ، والترويج أن القرآن موسوعة علمية ، وأن كل المكتشفات العلمية موجودة ضمن الآيات القرآنية ، والمهم أن يفسرها أحد الفقهاء التفسير الصحيح لها ، كما يتناقل من هم اقرب الى الجهل ، أو من لديهم بعض قشور من المعرفة أخبارا عن مصائب حلت بفلان لتركه الصلاة ، او فلان لشربه الخمر .. مما لا ينهض على ثبوته دليل ، ولا يصمد للتمحيص والتجربة .
إن القاعدة الأساسية للتعامل مع المعلومة يبدأ من عالميتها ، أي أن يكون قد جرى تجريبها واختبارها وظهرت نتيجتها الايجابية سواء في الصناعة أو التكنولوجيا او الطب ، واعتُرف بها على المستوى العالمي في الكثير من مراكز الأبحاث العلمية ، حيث لا يصبح العلم علما إلا إذا صار عالميا ، ولا يصبح عالميا إلا بعد نجاحه في التجربة ووضوح نتائجه وفوائده .
فإذا جاء من يدعي خصائص وفوائد لطعام أو شراب أو أي شيء ، دون أن ينال موافقة الطب ، فإن علينا أن نقف من ادعاءاته موقف الشك والرفض الى ان يُثبت الطب ادعاءه أو ينفيه . 
في بعض الأحيان تُحاك قصة خرافية لأسباب صحية دون ان يصل الى السامعين أن هناك أسباب مرضية تختفي خلف الحدث .مثلا ، فان مريض الفصام المصاب باضطراب في الادراك ، حيث يتصور أو ينتابه شعور أن في بابه من يحاول التجسس عليه ، أو من يريد به السوء ، فتراه يسمع بعض الأصوات ، فيأخذ في تحليلها ، مع أن ليس لها وجود في الواقع . واذا حدث وجود ورم في منطقة البصر في الدماغ فان المريض يختل عنده العصب المختص بالإبصار ، وبالتالي تختل عنده عملية نقل المرئيات والصوتيات ، فتصبح إما مضخمة أو مصغرة أو على غير طبيعتها ، كأن يتصور أن هناك ثعبان خلف الجدار ، أو أن شخصا يتربص لإلحاق الأذى به أو لاغتياله . فاذا لم يكن لدى السامع معرفة سابقة عن حالته المرضية هذه وكان مرضه لا يزال غير مكشوف لدى الآخرين ، فحتما سيداخله التصديق بما يقول خصوصا اذا كان الشخص ذو سمعة حسنة ، فان السامع سيأخذ كلامه على أنه حدث فعلا ، فيبدأ بنقلها على أنها حقيقة راسخة ، وإذ بنا أمام خرافة لأنها صدرت عن شخص أهل ثقة وسمعة حسنة .
إن الناس ليسوا على قدر واحد وعالٍ من المعرفة ، وهذا النقص المعرفي يجعلهم يروون الكثير من القصص والحكايات والآراء مطعمة ومغلفة بغلاف تكميلي نتيجة للنقص المعرفي ، حيث لا يرى الناس إلا القليل مما يروون من أحداث ويقومون بتكملة الرواية من بناة أفكارهم ، وهو ما يسمى بتعبئة الفراغات المعرفية ، وإذ بنا أمام حكاية أو مجموعة حكايات لا تزيد عن كونها أوهام وأباطيل نتيجة لحالة القصور المعرفي والتفسيري للأحداث . 
ولكن كيف يمكننا الخروج من مأزق الانسياق خلف الخرافة ؟ 
1- التخلص من السرعة في التفكير واعتماد أسس التفكير المنهجي العلمي . 
2- التخلص من الكسل الذهني واسلوب التلقين والحفظ وتنشيط التفكير والجاهدة والتمرين وتكثير التساؤل والبحث عن الحل .
3- اعتماد مبدأ النقد والنقد الذاتي والاعتراف بالقصور ، فلا حلول صحيحة اذا لم يسبقها الاعتراف بالخطأ .
4- التخلص من وهم الاكتفاء المعرفي والاعتقاد أن ما لدينا يكفينا ولا نحتاج لعلوم وتجربة غيرنا .
5- أن يكون لدينا الجاهزية لقبول الجديد والمتطور ليس في التكنولوجيا فقط بل وفي القوانين الادارية والدستورية . 
6- التخلص من وهم الخصوصية والعصبية الدينية أو القومية أو العرقية ، فالعلم ليس له حدود جغرافية أو قومية ، انه نتاج النشاط العقلي الانساني ككل . 
7- الاعتراف بالحقيقة والالتزام بها مهما كانت نتائجها ، ويجب عدم مجاملة العادات والنصوص التراثية والفتاوي على حساب الحقيقة .
هذه هي المبادئ التي يجب أن تتعلمها وتلتزم وتسترشد بها المؤسسات المسئولة عن تربية وتعليم الأجيال الناشئة ، وبدون هذا سيبقى المجتمع العربي والاسلامي أسيراً للخرافة ، وبالتالي يسهل تفشي الاشاعات الدينية بين ظهرانيه ولن يتخلص من التخلف الفكري والاجتماعي والاقتصادي في الزمن المنظور .

الأربعاء، 5 نوفمبر 2014

هذه هي الحقيقة

هذه هي الحقيقة

أنهى الدكتور معاوية فحص آخر مريض جاء لاستشارته، فانتابه إحساس بالتحرر من معطفه الأبيض، جال بنظره خارج غرفة الفحص عبر النافذة , وما أن استدار , وإذ به أمام صديقه الحميم سفيان الذي يعمل في مصلحة البريد – وهو مثقف مغرم بالقراءة و في حالة عراك مع القضايا الفلسفية – ويحلو للدكتور الاستماع إلى حديثه كلما سنحت له الفرصة.
          كانت الصداقة بينهما حميمة لها امتداد زماني  طوال مراحل الدراسة  السابقة  لدرجة أن الدكتور يدخل في الحديث معه وفي أخطر المواضيع بدون مقدمات.
          فما أن شاهده أمامه حتى أحس برغبة في الانطلاق الى عالم آخر غير عالم المرضى والأدوية  فعاجله بصوته الهادئ الرتيب: أنت تعلم بطبيعة الحال أن كل ما في هذا العالم لا معنى له ، حتى الاحساس بالمتعة يبدو كاذبا في أغلب الأحيان ، إذا استثنينا المظاهر الروحية السامية للعقل البشري. فالعقل هو السمة المركزية التي تجعل هناك فرقا  بين الإنسان والحيوان ، لأنه هو الذي يهبنا تلك اللمسة السامية  من الطبيعة الروحية  التي نتميز بها ،ويمنحنا القناعة الى أن نهدأ الى نتائجه في أغلب الأحيان .وأحيانا يجعلنا نعتقد أنه يحل مسائل معقدة  تخص المجهول والخلود   لدرجة أننا نصدق أنه يحل إلي حد ما، محل الخلود الذي لا وجود له . 
  وإذا سلمنا بهذه المقدمة استطعنا أن نقول : أن العقل هو المنبع الوحيد للمتعة , ولو من بعيد ، نعم إن لدينا كتبنا التي نبني فيها قصورنا , ونفرغ فيها آمالنا ورغباتنا , ولكنها لا يمكن أن تحل محل الحديث والاتصال الشخصي. وإذا كانت الكتب هي الموسيقى المكتوبة فإن الحديث هو الغناء."هذه هي الحقيقة"
     وفي هذه الأثناء أقبلت حليمة الخادمة من جهة المطبخ محضرة الشاي وعلى وجهها إمارة حزن صامت ، كانت حليمة في العقد الرابع من العمر , اٍلا أن هموم الحياة وثقلها جعلتها تبدو  وكأنها في العقد السادس من العمر . وضعت صينية الشاي على الطاولة القريبة , بينما لم يقطع الدكتور حديثه مع مُحدثه , فوقفت بالباب  واضعة خدها على قبضة يدها وقد شدها ما يقال.
وهنا يتنهد سفيان ويقول : "ولعلك لا تزال تظن أن الناس في أيامنا هذه لهم عقول !" وينساق إلى الكلام عن الأزمنة الماضية حين كانت الحياة بسيطة بهيجة، تفيض بالمتعة، حين كانت الناس تضع الشرف والصداقة فوق كل اعتبار. فكان الناس يقرضون بعضهم بعضا دون إيصالات، وكانوا يعتبرون من النذالة ألا يمد الصديق إلى صديقه يد المعونة عند الحاجة، أما المغامرات والمناوشات والصداقة  والنساء ،فحدث عنها ولا حرج ، وشاطئ غزة يا له من شاطئ ،انه غزير الانتاج , والشارع  والمدرسة , والمركز الصحي , وحتى زوجة الحاكم ،كان يقال أنها على علاقة مع أحد الضباط الشباب.
          وهنا هزت حليمة رأسها وقالت معلقة على ما سمعت :"الله يسامح الناس فقد كانوا يعملوا كل حاجة على طبيعتهم، كان كل شيء مخلوط مع بعضه".
كان الدكتور معاوية يصغي إلى جليسه سفيان دون أن يلقي بالا إلى المعاني البعيدة لكلماته ، فقد كان يفكر في شيء آخر وهو يرتشف كوب الشاي.
   انطلق فجأة مقاطعاً سفيان وقال : كثيرا ما احلم بالناس  الأذكياء فأعود بالذكرى الى سنين الدراسة والكتب والمدرسين فيتركز الذهن على أقرب الزملاء في السنين الدراسية الأخيرة ، فتنتابني  رغبة أن أراهم  وأتحدث معهم حيث لدي رغبة في التعرف على ما وصلوا اليه بعد هذه السنين من الدراسة والكد , وهل وجدوا ذاتهم , وحققوا آمالهم , وما هي مقاييسهم للسعادة في هذه الحياة . والحقيقة أن والدي رباني فأحسن تربيتي وتعليمي، ولكنه كان واقعا تحت تأثير الأفكار السائدة في زمانه، وكثيرا ما يجول بخاطري أن أصبح شيئا آخر غير ما أنا فيه لو لم أطعه.
     ولا زال رنين صوته  في  أُذني  حينما  كان  يقول : اسمع يا معاوية , بدي  اٍياك  دكتور , دكتور قد الدنيا ,  أنا بستنى اليوم  اٍللي  أشوف  فيه  القارمة على  باب الدار مكتوب  عليها :     " بيت الدكتور معاوية " .
   ويستكمل الدكتور معاوية  حديثه السابق مع محدثه قائلا : 
   نعم لا شك أن الانسان غير خالد , وأسمى شيء في الانسان هو العقل ,ولكن  العقل غير خالد أيضا ، وإنما هو غابر ككل شيء آخر في هذا الوجود . ولكن دعني أوضح لك لماذا أجعل له كل هذه المنزلة، فالحياة شرك كريه. وبمجرد أن يقترب الشخص المفكر من النضوج ويصبح قادرا على التفكير الواعي  فانه لا يستطيع الخلاص منه بأي وسيلة من الوسائل. وإذا فكرت في الأمر وجدت أن الإنسان يُقذف إلى الوجود من حالة  اللا وجود  دون  إرادة منه ، ولأسباب عرضية بحتة ... ولماذا ؟
          انه إذا حاول أن يستنبط معنى الوجود وهدفه فإنه إما ألا يحصل على أي جواب وإما أن تنهال عليه الترهات  والأباطيل من كل جانب، وربما  يهرب الى الخرافة ليريح عقله بعض الشيء , انه يطرق الباب، فلا يفتحه له أحد ثم يدهمه الموت على غير إرادة منه أيضا. وإذا كان السجناء الذين  جمع  بينهم سوء الطالع المشترك يشعرون بأنهم اسعد حالا كلما كانوا سويا، ويعز عليهم فراق بعضهم البعض حتى وهم  بين أسوار السجن . ولكن هذه هي  حال البشر , إنهم يتجاذبون  الأحاديث فيما بينهم عن كل شيء في العالم  حتى يصلوا الى أدق الأمور , ويغوصون فيها تحليلا وتعميما . ولا يلاحظون أنهم داخل الشرك، فيحاولون أن يقضوا وقتهم في تبادل الأفكار السياسية الطليقة. وعلى هذا الاعتبار يعد العقل منبع رضى لا مثيل له, وفي نفس الوقت ملجأ وسلوى عظيم  لهم.
كان الدكتور يحاول أن تلتقي عيناه بعيني محدثه ، ويواصل الكلام بصوته الهادئ الهياب عن الأشخاص الأذكياء ومتعة الحديث معهم. وكان سفيان يستمع إلى الدكتور بإصغاء تام دون أن ينسى التعليق على كلامه من حين لحين بجملته المعهودة :"هذه هي الحقيقة".
ولكن هذه المرة أتبعها بسؤال :                                                                                "ولكن ألا تؤمن بالخلود ؟" فيرد عليه الدكتور معاوية ،كلا يا عزيزي سفيان أنا لا أؤمن بذلك ولا أجد سببا يدعوني إلى الإيمان به.
فيعقب سفيان قائلا : الحقيقة أني أنا أيضا أشك في ذلك ،ولكني من جهة أخرى أشعر بأني لن أموت أبدا ، وأراني في بعض الأحيان أقول لنفسي :
"هيه أيها الرجل الهرم، لقد آن الأوان لتموت"
ولكن صوتاً خافتاً يهمس لي :"لا تصدق ذلك إنك لن تموت أبدا"
فتمتم الدكتور معاوية :"يا له من قدر أجوف ذلك الذي قذف بنا إلى هنا ، وأسوأ شيء أننا سنضطر إلى الموت هنا أيضا".
وهنا يتململ الصديق سفيان للرحيل فيودعه الدكتور وعلى وجهه ابتسامة حنان واحترام، ويردد : " هذه هي الحقيقة".
                                        

                                              **************

موضوع أعجبني بعنوان : مجتمعات العلم -- للكاتبة : فاطمة المزروعي

مجتمعات العلم  
عندما يرتفع سقف التعليم في أي مجتمع فإنه تبعاً لهذا يرتفع المستوى الاقتصادي والتنموي فضلاً عن المستوى الاجتماعي، ويمكن ببساطة متناهية قياس ومعرفة المجتمعات التي تنتشر فيها نسبة عالية من التعليم بعدة ظواهر ستشاهدها وتلمسها فقط في تلك المجتمعات دون سواها، منها الاستقرار التام ومظلة شاسعة من الأمن، كذلك ستلاحظ في مثل هذه المجتمعات اهتماماً عالياً بأمور تختلف عن السواد العام في الدول والبلدان والمجتمعات الأخرى، فقد تجد في بلد ما اهتماماً ونقاشاً في قضايا محسومة ومنتهية لدى الآخرين، بينما في مجتمعات العلم تجد حواراتهم وقضاياهم تدور عن غزو الفضاء أو بناء محطات توليد حديثة للطاقة صديقة للبيئة أو البحث عن مصادر بدليلة للطاقة.
كذلك من ملامح مجتمعات العلم مظلة كبيرة تغطي الجميع اسمها القانون وسيادته، وأمامه لا فرق بين كبير أو صغير، مجتمعات العلم شوارعها مرتبة والحركة المرورية منتظمة دون خلل والجميع يحترم هذه الأنظمة، مجتمعات العلم تجد فيها لحمة وتواصلاً دائماً بين القيادة والشعب على مختلف أطيافه دون تفريق أو اختيار، مجتمعات العلم تسودها لغة الأرقام فلا مجال للعشوائية ولا مجال لنشر معلومات غير صحيحة أو مجافية للواقع.
في مجتمعات العلم تخطيط وحركة نحو البناء والتعمير لا تعرف الكلل أو الملل، مجتمعات العلم تبني المدارس والجامعات وتخرج أجيالاً من حملة نور العلم وتبشر به العالم وتسابق به الأمم. مميزات مجتمعات العلم أنه يمكن ملاحظتها بسهولة حيث تجدها تضم ملايين الناس من مختلف دول العالم، بلغات وثقافات مختلفة ومتباعدة، ورغم كل هذا تجد الجميع في ألفة وتناغم قل مثيله، والسبب هو أن مجتمع العلم يخطط ويحل المشاكل وفق العلوم.
مجتمعات العلم لا تدخل في خصوصيات الناس ولا توجه أحداً لما يكرهه إطلاقاً، ما يحدث ببساطة متناهية هو أن الجميع يملكون إدراكاً تاماً وحقيقة لا تقبل الفصام أو النقاش بأن للجميع حق العمل والإنتاج والحلم والأمل، دون مخالفة لأعراف وتقاليد وأنظمة هذا البلد. مجتمعات العلم، رغم ما تحمله من شعلة خير للإنسان ورغم أن من بين ثناياها تنبثق شمس السعادة على الجميع، إلا أنها شحيحة في عالم اليوم، هذا العالم المضطرب الملتهب المنكوب بنار تحطيم الأحلام والانتفاضات والمظاهرات. بلادنا الحبيبة الإمارات ليست اليوم مجتمعاً من مجتمعات العلم فحسب بل هي مجتمع المعرفة وهذا مبعث السعادة لنا جميعاً.

-- تعليق من المدون على الموضوع : 

  
  موضوع أعجبني لأنه موضوع تنويري يبين الفرق بين المجتمعات التي اعتمدت العلم في مخططاتها وفي بنيانها اقتصادي فانعكس هذا على بنيانها السياسي ومكونها الاجتماعي . فمجتمع العلم يقف على النقيض مع مجتمع الخرافة الأقرب الى البربرية والعشائرية وتقدس فيه مسميات لا تناسب الحياة العصرية ، من مثل شيخ وفقيه ومفتي وأمير وملك ، وليس متعلم وعالم ومثقف وطبيب . وفي مجتمع الخرافة لا يوجد تصور عن معنى الحرية ولا الديمقراطية ولا الانتخابات ، ولا معنى لدولة تمثل الشعب ، ولا دولة المواطنة لجميع السكان في البلاد بغض النظر عن اختلافهم في الدين أو الجنس أو اللون ، بل يوجد تصور أصولي وذلك باعادة دولة خلافة يقف على رأسها شخصيات ومسميات لا تمت للعلم بصلة ولا تمت للعصر بصله . 

السبت، 1 نوفمبر 2014

في العلاقة بين الماركسية والدين -- راديكال - يزن حداد نقلها لكم : رمضان عيسى


في العلاقة بين الماركسية والدين (1-2)

قلّما يؤخذ المفهوم الماركسي للدين بمعزلٍ عن التشويه الأعمى وتسطيح الأفكار، حيث يحيط به جملة من الالتباسات التي تتعلق بمسائل إلحادية فجّة، لا شأن لها بأدوات التحليل الماركسي التي تنظر إلى الدين بصورة مغايرة عمّا اعتاد العامّة اختزاله في مقولة ماركس "الدين أفيون الشعوب" وحدها!
Yazan1
راديكال - يزن حداد

جرّب أن تضع تلك العدسة (الماركسية) أمام عينيك واقرأ منها تاريخ الكنيسة في أوروبا والمسجد في الشرق.
لكن قبل الشروع في بحث المنظور الماركسي للدين والتعمق في قراءته، ينبغي علينا البدء أولاً بتحليل الوعي الاجتماعي وأشكاله المختلفة، وعلاقتها بالبنائين الفوقي والتحتي لأيِ مجتمع، وماهيّة الشروط التي قادت إلى نشأة الأديان بدايةً، ومن ذلك، ننطلق من السؤال التالي: ما هو طرف الخيط المطلوب لفهم المنظومة الدينية والأديان بعامة؟
الوعي الديني في ضوء الوعي الاجتماعي
يمثّل المجتمع ووجوده المادي، الميدان الحيوي لتشكّل وتطور الوعي الاجتماعي، كون الوعي لا يمكن أن يتشّكل بصفةٍ مجردة خارج إطار المجتمع، لكن الوعي الاجتماعي لا ينشأ بصورة مباشرة عن الوجود الاجتماعي، فالنشاط البشري يرتبط بدوره بالوجود الاجتماعي ويسمح بتحقق القوانين الموضوعية التي يمنح إدراكها القدرة على تغيير الواقع وفقاً لها، ومما لا شك فيه، أن الوعي الفردي يختلف عن الوعي الجمعي بشكلٍ فارق، بالرغم من أن الوعي الفردي يحمل في طياته الوعي الجمعي، ومن ثم فهو يتبلور داخل زواياه وينسج علاقة تأثير جدلي متبادل معه.
فالمزاج العام لمجتمعٍ ما، لا يحكم بالضرورة الوعي الفردي لكافة أفراد المجتمع دون استثناء، وهو ما يوحي في تلك الحالة بمشهدٍ مشوّه لقطيعٍ ضال في فضاء التاريخ، يتحرك وعيهم جميعاً بتناغمٍ تام في سياق منغلق على نفسه، لا تتمايز فيه الأفكار ولا تتداخل لتنجب أفكاراً جديدة.
ومن جهةٍ أُخرى، إن الوعي الجمعي لا يتم التعبير عنه كمحصلة ميكانيكية لتراكم مجمل وعي الأفراد في المجتمع المعني، فانعكاس الوعي للوجود الاجتماعي ليس تأمّلياً كانعكاس الصورة على سطح المرآة، بمعنى أن الوعي الاجتماعي ينتصب على أرضية الوجود البشري والحاضنة الاقتصادية لنشاطه، أي قاعدة الإنتاج المادي في المجتمع، لكنه يكتسب استقلالية نسبية عنه بفعل القوانين الداخلية التي تحكم عملية تطور كل منهما، إلى جانب تميّز أشكال الوعي بصفته إدراك الإنسان لعالمه الموضوعي ولذاته.
تتفاوت أشكال الوعي الاجتماعي بحسب درجات تطورها وكيفية ترجمة الوجود الاجتماعي، ويقع ذلك ضمن مستويين أساسيين، هما السيكولوجيا الاجتماعية والأيديولوجيا، كما تشكّل جميع أنساق الوعي وباختلاف العمق الذي تعكس به وجود المجتمع، الكلّ الاجتماعي الذي تترابط عناصره عضوياً وتتفاعل فيما بينها.
ومن تلك العناصر يبرز الوعي الديني كشكل خاص من أشكال الوعي الاجتماعي؛ إضافة إلى الفلسفة والسياسة والفن والعلم والأخلاق، والتي تؤثر ببعضها البعض وتنطوي على سيرورة تراكم تاريخي دائمة، وتتمظهر تلك الأشكال في البنية الفوقية للمجتمع من خلال الأجهزة الأيديولوجية للدولة، كما يبيّن الفيسلوف الفرنسي لوي ألتوسير. ولئن كانت البنية الفوقية تنبثق عن البنية التحتية وتضبط آلية عملها، فإن المجتمعات المنقسمة طبقياً يسودها، بالضرورة، الوعي الطبقي كمقياس للوعي الجمعي.
ومن منطلق تحديد الخصوصية التي تتمتع بها البلدان العربية، سواءً من حيث البنى الاقتصادية القائمة التي تعاني متلازمة التبعية نظراً لتشوّه “خلقي” أثناء ولادتها، أو الهيكل الاجتماعي الذي تعرض إلى تحويرٍ مستمر لينسجم وطبيعة الأنماط الاقتصادية المتخلفة، أو التراتبيات السياسية التي تفرض امتيازاتٍ طبقية تتخذ طابعاً ذا منطق ديني أو طائفي أو عشائري، والتي تقف بالأساس على أكتاف الصراع الطبقي، فإن الوعي الديني (والمتطرف تحديداً) يجد تربةً خصبة فيها نظراً لتشابك عدة عوامل داخلية وخارجية، وتلك مسألة سنعود لها في محورٍ آخر.
يعد الوعي الديني من أقدم أشكال الوعي الاجتماعي التي ظهرت منذ غابر العصور، منذ فجر الحضارة البشرية، حيث تشّكل التصورات الغيبية للعالم نواة أي منظومة من الأفكار والعقائد والمشاعر والطقوس الدينية، التي تعتمد على معادلة لاهوتية بثابتين، هما عالم روحاني غيبي في جوهره يقع فوق عالمنا الموضوعي. ويوضح إنغلز في كتاب (ضد دوهرنغ) أن الأديان ما هي إلا “انعكاس غيبي في أذهان الناس لتلك القوى الخارجية، التي تسيطر عليهم في حياتهم اليومية.” وذلك في إشارةٍ إلى أحد الأدوار الاجتماعية التي يلعبها أفيون الدين بتعليق الثورة وإرجاء غضب الشعوب حتى إشعارٍ آخر، إلى جانب دوره في تخدير الجماهير من خلال ما يشبه صكوك الغفران.
لكنَّ وظائف الدين الاجتماعية آنفة الذكر لا تجد مساحتها التطبيقية إلا من خلال مستويين رئيسيين تعمل الطبقات الحاكمة على تسخيرهما؛ أولاً الوظيفة الاجتماعية في “التعويض” عن بؤس الحياة عبر المساومة على تناقضات الواقع واستبدال الحلول المباشرة في معترك النضال لتغيير شروطه بحلولٍ غيبية، وثانياً الوظيفة “التنظيمية” التي تسبغ الأنظمة الحاكمة بطابع القدسية السرمدي وتختلق للعامة مسوّغات ديمومتها.
إذاً نخلص إلى الاستنتاج الأولي بأن الدين هو شكل خاص من أشكال الوعي البشري، الذي نشأ مع بدايات تأمّل الإنسان في الطبيعة، الأمر الذي استفز عطشه للمعرفة ليطرح السؤال تلو الآخر، أسئلة تتعلق بالخلق والوجود والحياة والموت والأخلاق، في الغاية من الوجود ومحاولات الهروب المستمرة من الموت، أسئلة حاول الفلاسفة الوجوديين إجابتها لاحقاً، لكنَّ ذلك أفضى بهم إلى تأليه الذات على الموضوع!
كانت تتجنب أطروحاتهم في معظمها السؤال الاجتماعي الذي يتعلق بتركيبة المنظومة الدينية تارةً، ولم تقم بإحالة الدين نفسه إلى أية اعتبارات سياسية تارةً أُخرى، وهو ما يشكّل مجالاً لدراسة وفهم الدين بصورة أعمق من خلال ربط المنظومة الدينية بمنظومة العلاقات الاقتصادية الاجتماعية والسياسية كذلك، لتحسس الطبيعة المزدوجة له والقبض على المشهد بشموليته.
الوعي الديني على مفترق الطرق
إذاً يأتي مساق البحث في الإطار العام وليس الخاص؛ ومن نافل القول بصدد ذلك أن الدين نفسه هو خيار وجداني شخصي، وبالتالي يبقى الأهم هو معالجة تاريخية لدور المنظومة الدينية في إدامة علاقات السيطرة الطبقية التي تتمظهر في جهاز الدولة، وارتباط الأخير بأنماط الإنتاج المختلفة، مع التأكيد على أهمية وراهنية تقصِّي مسألة قيام حركات تحرر دينية مناوئة للخطاب الديني الكلاسيكي الذي تستّرت خلفه نخب طبقة الإقطاع القروسطية، لتستبدله لاحقاً البرجوازية بخطابٍ آخر وتوظف بعض عناصره في آن، تبعاً لما تفرضه ضرورات التوسع الرأسمالي والمصالح الطبقية.
سبق أن أشرنا إلى الوظيفة التنظيمية التي يلعبها الدين كقوة سياسية أو كأيديولوجيا على حدٍّ سواء، وعلاقة المنظومة الدينية بالسلطة السياسية الحاكمة، وهو ما تجلى بوضوح في القرن الرابع ميلادي، حيث تم فرض الدين المسيحي رسمياً لتوحيد الإمبراطورية الرومانية التي مزقتها التيارات الدينية المتناحرة واللادينية كذلك (أو الوثنية بحسب التعبير المتداول)؛ ومن المعروف أن علاقة التوازن والمصلحة المتبادلة التي نشأت بين الكنيسة كمنظومة دينية وبين السلطة بمختلف أطيافها، بدأت بالتفسخ مع انهيار الإمبراطورية الرومانية الغربية في القرن الخامس، لتفسح مجالاً أمام هيمنة سلطة الكنيسة بكسر علاقة التوازن تلك، حيث ملأت الكنيسة الكاثوليكية الفجوة الناجمة عن انحسار سلطة نمط الإنتاج العبودي الذي جسدته الإمبراطورية الرومانية، لتفتح الأبواب أمام حقبة زمنية امتدّت حتى القرون الوسطى، أي حتى أوج سيطرة الإقطاع والكنيسة، حيث وضعت الأخيرة لمستها “الخاصة” لتضمن بقاء الملوك الإقطاعيين في سدة الحكم، ولتضفي الشرعية الإلهية على ذلك النمط من الإنتاج.
حيث كان هذا العامل الرئيسي الذي دفع بفلاسفة ذلك العصر وطليعة الطبقة البرجوازية من النخب، إلى مهاجمة الدين بعامة ومنظومة الكنيسة بخاصة التي تمترست خلفها قوى الإقطاع وملّاك الأراضي ونبلاء الطبقة الأرستقراطية، مهاجمة حملت معها ازدراءاً غير مسبوقاً لكل من البنية الإقطاعية ولاهوتها الرسمي في بوتقة واحدة.
فقد عملت فلسفة التنوير التي تعاظم وقع أثرها في خضم الثورة العلمية إبان مرحلة النهضة الأوروبية في العصور الوسطى، عملت على توجيه سهام نقدها إلى الأديان بصورة عدائية مباشرة، حيث نظر بعض روّاد ما عُرف بعصر التنوير حينها، بمساحة تقاطع كبيرة جمعت توجهاتهم مع النظريات الأنثروبولوجية (مالينوفسكي وايفانز-بريتشارد مثالاً) والسوسيولوجيا البرجوازية الرائجة بكل تهافتها، نظروا إلى الأديان بعيونٍ تجريدية بحتة أحياناً، أو بنظرة مادية ميتافيزيقية في فهمها أحياناً أُخرى.
كان يرى الفيلسوف البريطاني ديفيد هيوم (1711-1776)، على سبيل المثال، الذي تأثّر إلى حدٍّ كبير بالفلاسفة التجريبيين أمثال بيركلي، كما استلهم أيضاً جزءاً من أعمال منظّر الرأسمالية الكبير الاسكتلندي آدم سميث، رأى في كتاب (التاريخ الطبيعي للأديان) بأن الدين قد نشأ عن طريق عملية اللاتفكير، التي دفعت الإنسان في خوفه من قوى الطبيعة للجوء إليها ليمنح نفسه اليقين بالمستقبل حفاظاً على حياته.
لكن على الطرف النقيض، لم يكن أعلام الفلسفة المادية أنفسهم على وفاقٍ دائم مع القوى الثورية التحررية، وهو ما أدركه مؤسسو الماركسية في القرن التاسع عشر، فعلى سبيل المثال قد دافعت مادية توماس هوبز، الفيلسوف الإنجليزي، في القرن الثامن عشر، عن الملكية المطلقة في بريطانيا، في حين قامت بالمقابل حركات تحرر لاهوتي، بعضها كان يبحث في إصلاح المنظومة الكنسية أمثال مارتن لوثر (1483-1546) الذي أُتهم بالهرطقة من قِبَل الكنيسة، والبعض الآخر كان ثورياً يهدف إلى تغيير معطيات المنظومة الاجتماعية من خلال التوليفة التي جمعت بين الماركسية والثيولوجيا؛ الأب أوسكار روميرو (1917-1980) والقديس فكتور سانا باريا أنموذجاً، وهي تجارب زخرت بها أمريكا اللاتينية.
ومع تفجّر الثورة العلمية وتمدد حركات التنوير في أواسط القرنين السابع والثامن عشر تحديداً، انقضى عهد محاكم التفتيش والإعدام بتهم الشعوذة والسحر تماماً من أوروبا، والذي دامَ مئات السنين، حيث شملت عملية ما سمّي بالتنوير جُلّ أفراد الطبقة الوسطى والتكتلات السياسية المؤثرة حينها (“اللامتسرولون” على سبيل المثال، وهو المصطلح الذي أُطلق على جموع الفقراء التي ساندت حزب اليعاقبة في الثورة الفرنسية، والتي كانت تتميز بأنها لم تكن ترتدِ سراويل الطبقة الوسطى أو الأرستقراطية)، بالرغم من أن إعلان العداء الصريح للدين في تلك الفترة لم يكن موائماً على نحوٍ تام لطبيعة الظرف حينها، إلا أن الحالة السائدة بين الجماهير في الحقبة التي سبقت الثورة الفرنسية وخلالها، كانت ترتكز إلى علمنة الوعي الجمعي والعزوف الناعم عن الدين، وذلك بفعل الحرب الضارية التي شنّها فلاسفة التنوير على الأديان.
ومن جهةٍ أُخرى، فإن جموع الكادحين والفقراء لم تستطع التنصل تماماً من الممارسات العقائدية والمعايير الأخلاقية الضابطة، حالها في ذلك شبيه بحال الطبقة البرجوازية التي احتاجت في زحفها نحو السلطة إلى منظومة أيديولوجية محددة تنظم سيرورة نضالها الثوري في مقارعة جحافل الإقطاع، بالرغم من أنها أدارت وجهها للدين التقليدي المتمثل بالمسيحية، مما دفع بالأجيال اللاحقة للثورة الفرنسية إلى إطلاق محاولاتٍ عديدة لبناء منظومة أخلاقية شبه دينية، منظومة برجوازية للأخلاق تستبدل الخطاب المسيحي بالعقلانية ومعاداة كهنوت الإقطاع السائد؛ ومن تلك المحاولات برزت عقيدة “عبادة الكائن الأسمى” التي اقترحها الفيلسوف السويسري-الفرنسي جان جاك روسو (1712-1778)، وهو ما تبنّاه ماكسمليان روبسبيير عام 1794 لجمهورية اليعاقبة قبيل إعدامه، وكذلك دعوات عالم الاجتماع الفرنسي أوغست كونت (1798-1857) الذي دعى إلى اعتناق “دين الإنسانية” لعامة الناس كبديل عن المسيحية.
انسحبت تأثيرات الثورة المزدوجة، الثورة العلمية والثورة الفرنسية، على معظم الأحداث التي أعقبتها بصورة جليّة، حيث لم يكن للثورتين البرجوازيتين الهولندية والإنجليزية في القرنين السادس والسابع عشر ذاك التأثير الكبير بحكم تقيّد قضاياهما ضمن دائرة الوعي المسيحي التقليدي، بينما انحدرت أيديولوجيا الثورة الفرنسية مباشرةً من عصر التنوير في أواسط القرن الثامن عشر، فقد تحوّلت، لأول مرة، الديانة التي ساد جبروتها أوروبا لعدة قرون، تحوّلت إلى هامش السلطة ولم تعد راسخة كما كانت، وهو ما ظهر في وقتٍ لاحق خلال تحركات الطبقة العاملة الناشئة في القرن التاسع عشر، تزامناً مع نظريات الاشتراكية الطوباوية التي انتشرت في ذلك الحين (منها نظريات شارل فورييه وروبرت أوين في أواخر القرن الثامن عشر). لكن النقطة المطروحة للنقاش الآن تكمن في رؤية الماركسيين للدين، وطبيعته ووظائفه، وعلاقة الدين بالدولة وبأنماط الإنتاج والوعي الجمعي، من وجهة نظر الاشتراكية العلمية.
ماركس وما بعد ماركس.. الدين أفيون للشعوب؟
لفترةٍ طويلة، كان الاعتقاد الشائع في مختلف الأوساط أن ماركس، والماركسية بعامة، فلسفة معادية للدين بمجمله، شأنها في ذلك شأن فلسفات عصر التنوير التي اعتبرت الدين حبكة إكليركية وحسب (وهي مدرسة تعليم الكهنوت المسيحي)، لكن مما لا شك فيه، أن ماركس لم يتقمص ذلك الدور ولم يرغب به أيضاً، حيث اقتطع الكثيرون جملة ماركس من سياقها الأصلي ليراهنوا على الزمن بتشويه ما تبقى، فقد وردت جملة “الدين أفيون الشعوب” في بحث كتبه ماركس عام 1844 تحت عنوان (نقد فلسفة الحق عند هيغل)، وهي الفترة التي لم يكن ماركس ماركسياً فيها.
فقد كان ماركس يدين بمعظم آراءه ما قبل الماركسية إلى هيغل وفيورباخ الذين أثرا في كتاباته المبكّرة، ولكن لندقق النظر أكثر في تلك الجملة التي لا زالت بحاجة إلى بعض التعمّن والتمحيص في مضمونها: “إن التعاسة الدينية هي، في شطر منها، تعبير عن التعاسة الواقعية، وهي من جهةٍ أُخرى احتجاج على التعاسة الواقعية. الدين زفرة الإنسان المسحوق، روح عالمٍ لا قلب له، كما أنه روح الظروف الاجتماعية التي طرد منها الروح. إنه أفيون الشعوب”.
يؤكد ماركس على مسألة “الظروف الاجتماعية” عند الحديث عن الدين ووظائفه، حيث يرى أن الخلل لا يكمن في الدين بذاته، بل في الظروف التي خلقت الحاجة للسعي وراءه، وهنا يتقاطع مع فيورباخ الذي اتخذموقفاً ضد الأسباب التي أنتجت الدين، وليس الدين نفسه. هو “روح عالمٍ لا قلب له”، أو باستخدام تعبير هيغل في نقاش فكرة التناقض، نفي الشيء وإظهار الحقيقة الداخلية له، فالعلّة تقبع بصورةٍ رئيسية في المحيط الاجتماعي الذي قاد إلى نشوء الدين ومبررات وجوده، في الحقيقة الداخلية للدين، في العالم الذي لا قلب له.
لكن ماركس أدرك بلا شك جدلية الطبيعة المزدوجة للدين حينها برغم توجهاته المبكرة التي تنزع إلى اليسارية الهيغلية، فقد اعتبر أن الدين يضفي الشرعية اللازمة على البنية الاجتماعية القائمة من جهة، ويعبّر عن ميلٍ للاحتجاج عليها من الجهةِ الأُخرى، أو على التعاسة الواقعية الناتجة عنها.
في بداية هذا البحث كنّا قد ناقشنا مسألة الوعي الاجتماعي والوعي الديني بصفته أحد الأشكال الخاصة له، وهو ما استغرق ماركس وإنغلز في كتاب (الأيديولوجيا الألمانية) الذي نُشر عام 1846، أي بعد أن بدأت تتشكل ملامح أكثر وضوحاً لدى ماركس عن مشروعه الفلسفي، حيث قاما (ماركس وإنغلز) بإحالة مسألة الظاهرة الدينية إلى الوعي الاجتماعي كعلاقة تاريخية، بمعنى أن الدين كان إنتاج روحي واعي من الأفكار والتصورات لمجتمعٍ ما، يرتهن بالإنتاج المادي والعلاقات الاجتماعية الملائمة؛ ومما يجدر الذكر أن ماركس لم يكرس نفسه منذ (الأيديولوجيا الألمانية) وصاعداً لدراسة الدين كما سبق، على عكس الاعتقاد السائد أن ماركس كان يسكنه هاجس الدين وكيفية تفكيك أسسه، في حين أن ما كان يعنيه هو تفكيك البنية الاجتماعية الحاضنة له.
يقول الكاتب الماركسي الألماني أوغست بيبل في كتاب (مجتمع المستقبل) حول قضية الدين: “إن الدين هو الانعكاس المتعالي للظروف الاجتماعية السائدة. وبمقدار ما يتقدم التطور الإنساني ويتحول المجتمع، يتحول الدين معه، وإذا استخدمنا عبارة ماركس، فإن الدين هو السعي وراء سعادة وهمية تنشأ عن الظروف الاجتماعية التي تجعل مثل هذا الوهم ضرورة، وهو يختفي بمجرد أن تدرك الجماهير ما هي السعادة الحقيقية وترى إمكان تحقيقها.”
إلا أن إنغلز أظهر عناية بتحليل الظاهرة الدينية بما يفوق اهتمام كارل ماركس بها، فقد دأب إنغلز على ربط الدين بالتحولات الاجتماعية التاريخية، على خلاف الفيلسوف الألماني لودفيغ فيورباخ (1804-1872) الذي اعتبر الدين “جوهراً” يعيش بمعزل عن الصراعات الاجتماعية وخارج إطارها الزمني، ففي عمله الأكثر شهرة (جوهر المسيحية) الذي نُشر عام 1841 ينفي فيورباخ توق الجماهير الفقيرة إلى التدين كاحتجاجٍ على واقعها البائس: “كلّما كانت رؤية الإنسان محدودة، وكلّما جهل بالتاريخ والطبيعة والفلسفة، كلّما ارتبط أكثر بدينه. ولهذا السبب فإن الإنسان المتدين لا يشعر بحاجة إلى الثقافة.”، أي أنه يعزي التمسك بالدين إلى الجهل لا أكثر؛ قد يكون ذلك أحد الأسباب التي تغذي الدين والجهل رجوعاً، لكنه ليس أكثرها تأثيراً وأهمية، حيث يرى إنغلز بالمقابل أن الدين هو بناء ثقافي اجتماعي، يكون عرضةً لتغيرات تاريخية في وظيفته وفق حالة المرحلة التي يمر بها، فهي (أي المسيحية) كانت ديانةً للعبيد فيما مضى، ثم تحولت إلى أيديولوجيا لتبرير هيراركية الإقطاع وجور الأرستقراطية عبر سلطة الكنيسة المطلقة، لتتكيّف لاحقاً مع المجتمع البرجوازي ودعاة الليبرالية، كما أنها تمثل ساحة نزاع تخضع لتجاذبات القوى الاجتماعية وتمثيلاتها الدينية؛ الكاثوليك المسيحي المحافظ، وبروتستانت النزعات الرأسمالية والعمل الفردي، والبرجوازية العلمانية الصاعدة.. إلخ.
وفي الجهة المقابلة، كما سبق أن أشرنا، كان الماركسيون قد أدركوا الطبيعة المتناقضة للدين ووظيفته المزدوجة، وهي ما تبرهنه على سبيل المثال ثورة البروتستانت عام 1688 في إنجلترا على الملك جيمس الثاني، الذي كان متحيزاً للطائفة الكاثوليكية على حساب الأولى، حيث انضوت الجماهير تحت لواء “الدين” في نضالها الثوري ذاك، أو كما وصف فريدريك إنغلز مثلاً الثيولوجي الألماني توماس مونزر Thomas Müntzer (1489-1525) في كتاب (الحرب الفلاحية في ألمانيا) بأنه كان اشتراكياً ثورياً، لكنه فضّل استخدام اللغة المسيحية التي يفهمها الفلاحون على أفضل وجه في قيادة الثورة لتحقيق مملكة الرب على الأرض، بحسب تعبير مونزر، لكننا نجد إنغلز لاحقاً بفضل منظوره الطبقي الاجتماعي في تحليل الدين، يعيد مسألة المونزرية إلى تلاعب لغوي مسيحي وستار ديني لا أكثر.
وحيث وقف الدين على مفترق الطرق في أكثر من منعطف تاريخي، من ناحية كان كبار رجال الكنيسة يمثّلون لاهوت الإقطاع في العصور الوسطى، ومن جانبٍ آخر كان صغار الكهنة الذين التحموا بالحركة الفلاحية والنضال الثوري، أو الإصلاحي أحياناً. فالدين كما فهمه إنغلز وماركس الشاب أيضاً، ذو طبيعة مزدوجة، يكون رجعياً تخديرياً على طرف، وثورياً احتجاجياً على الطرف النقيض.
أما ماركسيي نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، فقد تقاطعوا مع ماركس وإنغلز في بعض النقاط، واختلفوا معهم في أُخرى حول تحليل الدين:
• كان ينظر كارل كاوتسكي إلى الدين على أن القناعات الدينية ما هي إلا “قشور” وأن الاختلافات بين المذاهب تحجب خلفها مضموناً اجتماعياً وتناقضات لمصالح مادية بالأساس، وبذلك كان يعتقد أن المعركة الفلسفية بين الأيديولوجيا المادية والمثالية عليها أن تخضع بالضرورة لمعايير النظام الطبقي القائم، أي بمعنى أن وحدة نضال البروليتاريا تتطلب انصهار العمال الذين يؤمنون بإله وأولئك الذين لا يؤمنون، في جبهةٍ طبقية واحدة. وهو يتقاطع في ذلك مع أطروحة لينين حول الحزب والاشتراكية والدين.
• رأى لينين بأن “الإلحاد” يجب أن يستبعد من برنامج الحزب تماماً، لأن تحقيق العدل والمساواة على الأرض في النضال الاجتماعي الذي تخوضه الطبقة العاملة نحو الاشتراكية، أكثر أهمية بأضعاف من السجال الفلسفي الكلاسيكي ووحدة الآراء حول الإله، وجدالات الدين العقيمة.
• وقد شاطرته روزا لوكسمبورغ ذاك الطرح، لكن طرحها لم يخلو من الهجوم على الرجعية الكنسية، وليس الدين بذاته، كما أكّدت على أن الحركة الاشتراكية ترمي إلى تحقيق مبادئ العدل ضمن نظام اجتماعي يذلل الفوارق الطبقية واستغلال الإنسان للإنسان، وهو ما يتفق بشكلٍ أو بآخر مع المُثل الأصلية للمسيحية البدائية، بمعنى أن رجال الكنيسة والدين بعامة، عليهم أن يحتفوا بالاشتراكية بوصفها فلسفة ثورية تحررية، وينخرطوا في النضال من أجل ذلك، بالرغم من أن روزا نفسها لم تكن تعتنق المسيحية أو تؤمن بها.
• أمّا الفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي، كان يرى أن الدين هو محض محاولاتٍ عبثية لخلق مقاربة واهمة بين تناقضات الواقع الفعلي، كما أشار أيضاً إلى الجانب الاجتماعي السياسي في التعبير عن الدين، والعلاقة التي تربطه بالبناء الفوقي (أو الدولة على وجه التحديد) والطبقات المكوّنة للمجتمع، وآليات إنتاج مثقفي السلطة والمثقفين التقليديين كذراع للهيمنة على الوعي من قبل تحالف السلطة والكنيسة، ويؤكد كذلك على أن أية دين يحوي غالباً نقيضه في الداخل، بمعنى أنه يتشكل من عدّة أديان مختلفة وربما متناقضة، فهناك “كاثوليكية للفلاحين، وكاثوليكية للبرجوازية الصغيرة وعمال المدن، وكاثوليكية للمرأة، وكاثوليكية للمثقفين” بحسب تعبير غرامشي.
• إرنست بلوخ (1885-1977)، الفيلسوف الماركسي الألماني، كان له آراءٌ مغايرة عن تلك التي توصل لها إنغلز بصدد “الستار” الديني والتلاعب اللفظي، إلى أن اعتبر الدين أحد أشكال الوعي الميتافيزيقي التي تعكس رجاء المهمشين واحتجاجهم في رفض هذا الواقع، على الرغم من تمييزه للطبيعة الازدواجية للدين على غرار إنغلز. حيث ألقى الضوء على تيار أفيون الشعوب، جهاز الدولة الثيوقراطي من جهة، وتيار الدين المتمرد، الدين الذي تعرض مناصريه للإعدام والتنكيل بتهم الهرطقة والخروج عن سلطة الكنيسة من جهةٍ أُخرى؛ الألبيجنسيون (نسبةً لمدينة Albi في جنوب فرنسا، وقد ظهرت هذه الجماعة في القرنين الثاني والثالث عشر)، وأتباع يان هوس (1369-1415، المصلح الثيولوجي الذي أُعدم بنفس التهمة) نماذج على ذلك الدين.
• بينما قام الفيلسوف الفرنسي لوسيان غولدمان (1913-1970) في أعماله بإجراء مقارنة بين الإيمان من منظور لاهوتي والإيمان من المنظور الماركسي، لكن دون الخلط بينهما، حيث يرى أن كلاهما ينزع إلى الإيمان بقيم فوق فردية: الاشتراكية وتحرر الإنسانية كاملةً في الماركسية، وخلاص المؤمنين إلى مملكة السماء في الدين، مع أخذ الرهان على احتمالية النجاح أو الفشل في مجازفة كلٍّ منهما بالاعتبار؛ لكن تعليقاً على عمل غولدمان، نميّز هنا بين رؤية الماركسية لتحرر الإنسان من قيود الحتمية كضرورة تاريخية، مقابل الرؤية الضبابية في الدين لخلاص المؤمنين كحتمية محضة!
إذاً، ينظر الماركسيون إلى الدين على أنه ثنائي الطابع، تارةً يكون وريثاً لـ “هرطقات” الماضي السحيق وتمرد الفقراء على لاهوت النظام الحاكم، وتارةً يكون المبرر الشرعي لاستبداد هذا النظام أو ذاك. لكنَّ دوره الانتقادي لم يعد عاملاً مؤثراً في عصر الصراعات الطبقية الحديثة، في أوج تطور الرأسمالية، في ذروة العجلة التكنولوجية التي غيّرت وجه الصراع، ولم تستطع إفقاده المضمون الطبقي الاجتماعي.
اليهودية، مسألة أُخرى
لردحٍ طويل من الزمن، رزحت آراء الكثيرين تحت سلطة الأيديولوجيا التي حاولت جاهدةً الربط بين أصول ماركس اليهودية والفلسفة الماركسية، بين الديانة التي اعتنقها والدا ماركس وبين المنظور الماركسي للاحتلال الصهيوني، الذي يرفضه (المنظور الماركسي) بشكلٍ قاطع بالمناسبة. حاولوا إيجاد القاسم المشترك باستماتة، إلى أن آلت بهم رغباتهم الجامحة إلى فوضى في الأفكار وخلط لا معنى له بين الماركسية والصهيونية، أي بين نقيضين.
لكن إذا أردنا الحديث عن المسألة اليهودية، فما علينا إلا أن ننطلق من ماركس نفسه، “إن طريقة طرح مسألة من المسائل تتضمن حلها”، ولنبدأ من تحليله الفذ حول قضية اليهود في أوروبا وألمانيا تحديداً، والتي أثارت جدلاً واسعاً ومناظرات عديدة. ونلاحظ في (المسألة اليهودية) لماركس كما في غيرها من كتاباته، أنها ذات طابع نقدي، والنقد ثمرة منهج المادية الجدلية، “فإن نقد المسألة اليهودية هو الجواب على المسألة اليهودية”.
لكن قد يقفز سؤال إلى الذهن بصدد تخصيص ماركس لكتابٍ يتعلق باليهودية دون غيرها، لماذا ليس الأرثوذوكس أو الكاثوليك، لماذا لم يناقش قضية الجماعات اليسوعية أو الميثوديين، أو البروتستانت على سبيل المثال؟ والسبب يكمن في أن ماركس يرى اليهودية على أنها الديانة الأمثل لمواكبة الرأسمالية ومنطقها، بحيث تتفق مع خصائص المجتمع المدني البرجوازي، أي بمعنى أنها الدين العملي للمنظومة الرأسمالية، كون التشكيل التاريخي لليهودية الواقعية يحمل في داخله نزعات التملّك الفردي وأُخرى تشجع التجارة. لكن ماركس لم يقم بتفسير اليهودية بشكلٍ ذرائعي على أية حال، بمعنى أنه لم يختزل جوهر استغلال الرأسمالية في اللاهوت اليهودي، فقد اقتضى سبر أغوار تلك الإشكالية بأن يحيلها إلى قاعدة البناء التحتي وعلاقته بالبناء الفوقي.
إذاً، يعالج ماركس المسألة اليهودية بما هي ظاهرة اجتماعية سياسية بصورة تعيدها إلى المستوى المادي للتحليل، وهي انقسام المجتمع على نفسه أفقياً بحيث يتحول الصراع الطبقي إلى صراع مذهبي ذو طابع سياسي، يطالب فيه اليهود بالتحرر من سلطة الدولة التي تنحاز إلى حاملي الديانة “المسيحية” على حسابهم، وهو ما عمل ماركس على إظهار حقيقته الداخلية من خلال مؤلف (المسألة اليهودية)، حيث يقول أنه “يجب ألا نبحث عن سر اليهودي في دينه، بل فلنبحث عن سر الدين في اليهودي الواقعي”، وبذلك يكون ماركس قد عاد بكافة جهود البحث في اليهودية من على سُحب الميثولوجيا ليوقفها على الأرض المادية الصلبة.
وفي سياقٍ متصل، لا مناص لنا من التعريج على بعض المصادر التاريخية لإبراز دور اليهود الاقتصادي الاجتماعي، الذي انطلق منه ماركس بلا أدنى شك. حيث يشير المؤرخ البلجيكي هنري بيرن (1862-1935) إلى الفيلسوف اليهودي فيلون Philon المعروف باسم فيلو السكندري، الذي وُلد في الإسكندرية وعاش بين عامي 20 ق.م وحتى 50 م، والذي عدّد المدن التي استقر بها اليهود قبل أن تنهار الإمبراطورية الرومانية في القرن الخامس ميلادي، وهو ما يفنّد التصورات الشائعة حول هجرة اليهود إلى معظم مناطق العالم عقب إنهيار الإمبراطورية الرومانية وسقوط أورشليم، وتعاظم سلطة الكنيسة في الغرب بالتحالف مع الإقطاع الأوروبي لاحقاً، فيؤكد في ذلك المضمار أن اليهود “كانوا يسكنون في عدد لا يحصى من مدن أوروبا وآسيا وليبيا، في القارات والجزر، قرب الشواطئ وفي المناطق الداخلية” ومن ثم يعقّب بيرن على حديثه ويقول: “ونجد اليهود، كالسوريين، منتشرين، أو بالأحرى، مجتمعين في كل المدن، كانوا بحارة وسماسرة، وصيارفة، وكان تأثيرهم فعالاً في الحياة الاقتصادية كتأثير الشرق في ميدان الفن والأفكار الدينية.”.
ومن هنا، كانت هذه نقطة ارتكاز ماركس في تحليل المسألة اليهودية، ودور اليهودي الاقتصادي الاجتماعي عوضاً عن إلقائه لعبث الأفكار والنظريات الطوباوية.
فقد دعى الباحث اللاهوتي والفيلسوف الألماني برونو باور (1809-1882) إلى تخلي اليهود الألمان عن يهوديتهم، وذلك كحلًّ لمطالباتهم بالـ “تحرر” من الاضطهاد “المسيحي” الذي تمارسه الدولة السياسية، حيث قام ماركس بوضع بحث (المسألة اليهودية) رداً عليه، والذي باشر بكتابته عام 1843 ونُشر عام 1844 في جريدة ألمانية، كان التصور لآفاق الحل بنظر ماركس ليس انعتاق اليهودي من دينه، بل تحرر الدولة ذاتها من الدين، بمعنى انكفاء الدولة عن تمثيل أي دورٍ ديني كعلاقة اجتماعية سياسية عبر تفكيك بنيتها الطبقية، فبرونو باور كان يرى التناقض على أنه تناقض لاهوتي بين اليهودية والمسيحية لا أكثر، متجاهلاً التناقض الاجتماعي الجوهري.
وبالتالي، وقع باور في خطأ نقدي عند حديثه عن تحرر اليهود، فهو يطالب بأن تخضع “الدولة المسيحية” للنقد شأنها في ذلك شأن اليهودية التي يدعو لهجرها، فهو لا يفصل بين التحرر السياسي وتحرر الإنسانية برمتها، بحيث يصبح النقد موجهاً للـ “دولة المسيحية” عنده وليس للـ “دولة بذاتها” بوصفها بنية طبقية قائمة على الانقسام العمودي للمجتمع. وكما يشرح ماركس بتشبيهٍ متقارب في كتاب الأيديولوجيا الألمانية، أن نهاية فلسفات المادية البحتة والمادية الميكانيكية السابقة التي وجهت نقدها للدين، أو نقد السماء، تفتح الأبواب لنقد السياسة الحديثة، وأن الدولة هي “سماء” الشعوب المضطهدة، والنقد عليه أن يبدأ انطلاقاً منها.
أمّا اللاسامية من جهةٍ أُخرى، أو معاداة السامية وفق الباحث الألماني فيلهم مار الذي استعمل المصطلح لأول مرة ليصف حالة العداء تجاه اليهود في العصور الوسطى، فإنها لم تكن من وحي المسيحية أو حتى شبه المسيحية بشيء، وهي أحد المسوغات التي ارتكز إليها موقف اليهود الهلامي في طلب التحرر السياسي، حيث “إن للعداء هذا جذوراً عميقة في أيديولوجية طبقية، في موقف طبقات المجتمع الروماني الحاكمة التي كانت تزدري – بحكم تقليد فلاحي عميق – جميع أشكال النشاط الاقتصادي غير المرتبطة بالزراعة”، فقد انخرط اليهود في حركة التجارة والتبادل في ذلك الوقت، إلى الحد الذي وصفهم بعض المؤرخين فيه بأنهم حلقة الوصل الوحيدة بين أوروبا وآسيا.
منذ أفول الإمبراطورية الرومانية واكتساح الكنيسة الظافر لأوروبا إلى ما يقارب القرن الثاني عشر، والذي تزامن مع عهد القنانة والإقطاع، أخذت صيرورة الطبقة اليهودية بالتشكل (وأقول طبقة لأنها تمتعت بامتيازات طبقية ومكاسب كبيرة من جراء التجارة، لكنها حافظت على بعدها القومي/الإثني ضمن إطار اجتماعي محدد)، حيث يحدد ماركس علامات ذلك الإطار: “لم تستمر اليهودية بالرغم من التاريخ، بل بحكم التاريخ”، فكما سبق أن بيّنا، “المجتمع البرجوازي يولّد من أحشائه الخاصة اليهود دون انقطاع” كونها تعكس خصائص ذلك المجتمع الذي يتسم بطابع مدني.
إذاً، وفق ماركس فالتناقض لم يكن يوماً لاهوتي، والتحرر لم يكن أبداً سياسي؛ ولذلك نفهم التناقض في سياقه الطبقي، والتحرر في سياقه البشري، وهو ما يدركه الماركسيون في تحليل أي ظاهرة اجتماعية.
هل الدين أفيون للشعوب؟ كان ماركس محقاً مذ أن خطّ حبر قلمه تلك الكلمات وحتى يومنا هذا.. لكن قبل أن تبدأ بإطلاق الأحكام المسبقة، إطرح سؤالاً على نفسك بصدد تلك العبارة التي أثارت شجباً واسع النطاق، أي دين؟! وما هي ماهية الدين أساساً؟ وعلاقة تلك الماهية في الأنماط الاقتصادية والاجتماعية للبشر؟

ماهي الدولة ؟؟هل للدولة دين ؟

لا تزال هناك صعوبات في تعريف الدولة , فالدولة مشتقة من كلمة STATUS أي حالة أو وضع , لذلك تعددت التعريفات الغير متفق على جزئياتها من قبل الجم...