الأربعاء، 16 أكتوبر 2013

الضحية


في أحدى ليالي مناوبتي، كنت جالساً على مقعد جانبي مواجهاً لموقف السيارات التابع للمستشفى المعمداني، وإذ بسيارة تدخل بوابة المستشفى وتتوقف في الموقف، وقد فتحت أبوابها جميعها مرة واحدة وتقفز منها فتاة في حوالي التاسعة عشرة من عمرها، وتنطلق هاربة بسرعة وغير محددة الاتجاه، فيندفع في أثرها ثلاثة رجال محاولين الإمساك بها وتهدأتها، فأمسك أحدهم بيدها وأخذ يشدها نحوه قائلاً: توقفي، لماذا تهربين ؟ ... لا تخافي، فقط سنعرضك على الطبيب ونسمع رأيه. التف ثلاثتهم حولها كذئاب حول حمل صغير، فلم تنبس ببنت شفه، وانقادت معهم بصمت يشوبه الخوف والتمنع، كانت منكسرة العيون مستسلمة استسلام اليائس، استسلام الفريسة التي يطبق عليها الذئاب. فلمن تشكو حالها وقد التف حولها ثلاثة رجال يبدو أنهم من أقرب الأقربين لها ؟ فما كان مني إلا أن اقتربت منهم، عارضاً خدماتي، وسائلاً عن غرض حضورهم للمستشفى. فقال أحدهم –وكان شاباً في العقد الثالث من عمره-: أين غرفة الاستقبال ؟ فأجبته بإشارة من يدي نحو غرفة الطوارئ... هناك... فسأل ثان –وكان رجلاً يبلغ من العمر خمسين-: أين الطبيب المناوب ؟ وكان الرجل الثالث قابضاً على يد الفتاة ومهدئاً إياها ببعض الكلمات، طالباً منها أن تكون هادئة. وقال لها: هذه آخر مرة، لن نأخذك غيرها. ويبدو من الحديث أن هناك مسألة طبية وتحتاج لاستشارة طبيب أو أكثر. ازداد فضولي، مما دعاني لمرافقتهم إلى غرفة الاستقبال. وهنا أصبحت ملامحهم بالنسبة لي أكثر وضوحاً. كانت الفتاة مستديرة الوجه، خمرية، عادية الجسم، متوسطة الطول ذات شعر أسود ناعم طويل، تقف مشدوهة وكأنها تحدث نفسها، ماذا حدث لي ؟ وكيف وقعت في هذا المأزق ؟ ومن أوقعني ؟ كنت سأقضي ليلة على خير ما يرام، ماذا جرى ؟ انحراف حاد إلى النقيض. أنا الآن في محكمة، من فيها القاضي ؟ من المُتَهم ؟ من المُتِهم ؟ من الشهود ؟ ما هي حيثيات الاتهام ؟ ما هي نوعية الحكم ؟ أقصى عقوبة ؟ أخف عقوبة ؟ ما هي الجريمة ؟ من اقترفها ؟ أما الشاب فكان في منتصف العقد الثالث تقريباً يحمل في يده حقيبة يد صغيرة، ويبدو من حركته وطريقة حديثه أنه متعلم، وهو الزوج المنتظر لهذه الفتاة. أما الرجل الآخر ذو الخمسين عاماً فكان والد الشاب. في حين كان الرجل الثالث يدل مظهره على أنه يبلغ من العمر حوالي ستين عاماً وهو عم الفتاة حيث أن والدها متوفي. دخلنا غرفة الاستقبال، وكانت المناوبة طبيبة أمريكية وترافقها ممرضة للترجمة. بدا على وجوه الرجال الارتياح، حينما عرفوا أن المناوبة طبيبة أجنبية. استقبلت الممرضة الحضور، وطلبت منهم الجلوس، وقالت سائلةً ما هي المشكلة ؟ فتقدم منها الشاب وقال: نريد من الطبيبة أن تفحص هذه الفتاة وتوافينا بالنتيجة. فقالت الممرضة: تفحص ماذا ؟ما هي الشكوى المرضية ؟ فقال الشاب: تفحصها هل هي بنت أم زوجة ؟ وهنا تراجعت الممرضة، وبدا على وجهها الاستغراب، مقدمة اعتذارها أنها لا تستطيع ترجمة هذه الشكوى لأنها مسألة حساسة ومثيرة للخجل بالنسبة لها. وهنا تقدمت وأبديت استعدادي لترجمة هذه المسألة للطبيبة الأجنبية التي لا تجيد اللغة العربية. كان هذا الموقف غريباً على جميع الحاضرين، فالطبيبة أخذت تنظر بتساؤل واستغراب، والرجال الذين ينظرون بعيون يملؤها التساؤل، وأنا والممرضة التي وقعت تحت تأثير الخجل الذي يسببه العرف والعادة، وأنه من العيب على الفتاة أن تتكلم في أمور جنسية أو ما يحدث بين الجنسين، فانسحبت. وكان يجب ألا تعتذر وتنسحب لأن الطب لا يفرق بين الجنسين، ويجب التعامل مع هذ1 الموقف طبياً. وما موقف العريس ؟هل يستطيع تجرع النتيجة، القبول بالحياة مع زوجة أصابه الشك بعذريتها من أول ليلة ؟ وما موقف الفتاة ؟هي تقف مسلوبة الإرادة، وقعت كفريسة بين براثن أقرب الأقربين لها، لا تدري كيف الخلاص ؟ قبلت الطبيبة أن أقوم بترجمة الموضوع بعد انسحاب الممرضة، فتقدمت من الشاب سألته عن الغرض من قدومه إلى المستشفى ؟ فقال بعد تردد: هذه خطيبتي –عروستي- وحينما هممت أن آخذ وجهها، لم يعترضني أي شيء، استطعت الإيلاج بسهولة، لم ينزف منها دم بعد الإيلاج. والمطلوب أن نفهم لماذا لم تنزف دماً ؟وهل هي فتاة أم امرأة ؟ استدرت باتجاه الطبيبة، شرحت لها بالإنجليزية ما حدث، وما هو المطلوب ؟ طلبت الطبيبة أن تسمع رأي الفتاة وما حدث معها. فاقتربت الفتاة وقالت: أؤكد لك يا دكتورة أنه لم يلمسني أحد، وقد فوجئت بهذا الموقف كما ترين. أمرت الطبيبة الفتاة أن تدخل غرفة الفحص ولوحدهما. كان الشاب يقف وفي ذهنه ألف سؤال وسؤال، ماذا جرى لي ولعروستي ؟ فبدلاً من أن تكون ليلة الفرحة الكبرى انقلبت إلى ليلة مشئومة. ماذا يحدث لو تغاضيت عن هذه المسألة ؟ لا ... لا أستطيع، فكيف أقنع والدي ووالدتي ؟ لا ... يجب أن تكون البنت بكراً، يجب أن يعرف أقرب الأقربين لي ولها أنها عذراء وليست ثيباً. كيف الخروج من هذا ؟ إن العرف والعادة تفرض نفسها على الجميع، وحتى المتعلمين منهم. لا يستطيع تجاهل هذه القضية رغم أنه يحب خطيبته ولديه كامل الرغبة لأن تكون زوجة المستقبل. ولكن ما العمل ؟ بعد لحظات خرجت الطبيبة، اشرأبت الأعناق، إنشدت العيون إليها –وخاصة العريس- تريد أن ترى شيئاً، أن تسمع أشياء !!! أخذت الطبيبة تشرح بالإنجليزية ما رأت وقمت أنا بترجمته، وكان يعني: أن هذه الفتاة –هي الآن زوجة- بعد الدخول بها، وأنها تملك غشاء بكارة مطاطياً، وفي هذه الحالة، لا يعني عند الإيلاج أن يحدث نزيف دم. فسأل الشاب –رغم أنه سمع شرحي للموقف-: لماذا لم تنزف دماً ؟ فنقلت استفساره للطبيبة، فأجابت: ليس بالضرورة، إن هذا يحدث حسب نوعية الغشاء، ويختلف من فتاة لأخرى، ونزول الدم ليس شرطاً للعفاف في حالات الغشاء المطاطي أو الرقيق، كما تختلف كمية الدم حسب سماكة الغشاء. فتقدم عم الفتاة وقال: الحمد لله، الله يبيض وجوهكم زي ما بيضتوا وجوهنا، وتوجه إلى العريس قائلاً: سامع ايش بتقول الدكتورة، مظلش كلام بعد هيك. فصمت العريس برهة من الزمن ثم قال: يعني لم يدخل بها أحد ؟ فقلت له: ألم تسمع ما قالته الطبيبة وهي أجنبية ؟ ولا تريد أن تقول كذباً، وهي مسألة طبية بحتة، ولا تعرف شيئاً عن عاداتنا حول هذا الموضوع. فقال –مُبدياً بعض التأثر-: توكلنا على الله، فاقترب منه والده، قبض على يده، وقال: هيا بنا يا ولدي، الله يستر على وليانا. كما اقترب عم العروس من العروس، وقال لها: هيا يا عم، ها نحن قد انتهينا، وغادروا المستشفى. وهنا جاءت مني إلتفاتة إلي الطبيبة فوجدتها تودع الفتاة بنظرات آسفة واستغراب وتعاطف، فقلت لها: لست أدري، هل داخلهم التصديق بما قلته أم لا؟!!! وأكملت –موجهاً حديثي إلي الطبيبة-: إذا لم تبرري عدم حدوث النزيف بطريقة علمية وطبية، فهل تعرفين النتيجة ؟ فقالت: لا. فقلت: سيطلقها، لن يتزوجها أحد بعد ذلك، وربما يُقدم الأهل على قتلها. فقالت –بلكنة عربية مكسرة- وقد بدا التأثر على وجهها: هرام...هرام...فظيع...فظيع جداً... وهنا جاءت مني نظرة عبر النافذة إلى المغادرين ولسان حالي يقول: إنها لمفارقة مؤلمة أن تصطدم الفتاة، دون سابق إنذار بمعضلة لا قبل لها بها، تكون هي ولوحدها في جهة، والمجتمع والتقاليد والأهل وشريك الحياة المنتظر في الجهة المقابلة. بالطبع ستكون هي الضحية، كبش الفداء. ولك تخرج من هذا المأزق سالمة يجب أن تتوافق أقوال جميع الشهود على أنها عذراء. العذرية، لا يمكن إثباتها إلا بظهور الدم ..... وإلا ستكون الطامة الكبرى، لا تسأل عن النتائج التي ستترتب على عدم ظهور هذه القطرات الخرساء، لكن لها معنى كبير في العادات والتقاليد، سيكون لها القول الفصل في مصير وحياة هذه الفتاة ومستقبلها. بعد عدة أشهر حصلت على عقد عمل في السعودية وتحدد طريق السفر عبر الأردن. صعدت إلى إحدى السيارات التي تحمل المسافرين إلى الجسر عبر القدس أريحا. توقفت بنا السيارة مقابل البوابة الرئيسة، اندفع الركاب من السيارات حاملين أمتعتهم لدخول صالة الانتظار. دخلت مع الداخلين عبر البوابة، وإذ بسيدة تسير متثاقلة فساعدتها حتى جلست على إحدى المقاعد المخصصة للمغادرين. وما هي إلا برهة من زمن حتى وصلت فتاة عرفت من حديثها أنها ابنتها وقد كانت قد سبقتها لتسليم جواز سفرها إلى الموظف المختص. جلس ثلاثتنا متقاربين، ولست أدري لماذا بقيت مشدوداً لتلك الفتاة، وقلت في نفسي: حقاً لقد رأيت تلك الفتاة قبل ذلك ولكن أين ؟ لست أدري ! لم أستطع تذكر أين ومتى رأيت هذه الفتاة ؟ ولكن ما أعرفه هو أنني حقاً رأيتها يوماً فقررت أن أسألها وأن أتعرف عليها. في الصالة يطول الانتظار ويطول الحديث ويتشعب وقد يصل إلى الأمور الشخصية، وجهة السفر وغرضه، والاسم والأقارب ومكان السكن. إن مساعدتي للوالدة خلقت مناخاً رحباً للتعارف مما أوجد فرصة جيدة للحديث مع الفتاة فسألتها قائلاً: لدي إحساس أنني رأيتك يوماً ما، وجرى حديث بيننا، ولكن أين ؟ لست أدري ! ربما في مستشفى حيث أنني أعمل في مستشفى وأرى كثيراً من الناس، أما غير ذلك فلا يمكن لأن محل سكنينا متباعدان وحركتي محكومة بظروف عملي. فقالت: ممكن أن نكون قد تقابلنا في المستشفى المعمداني. فعاجلتها بالسؤال: ما سبب حضورك للمستشفى ؟ أكنت مريضة أم مرافقة لمريض ؟ فقالت: لا، حضرت فقط برفقة عمي. فقلت في نفسي: قد تكون هي الفتاة التي حضرت ليلاً هي وعمها وخطيبها ووالده. فأردفت: أعتقد أنك أنت الفتاة التي حضرت برفقة عمها وخطيبها ووالده. فصمتت برهة وقالت: نعم أنا. فقلت: لقد كنت أنا من قام بترجمة حالتك للطبيبة. قالت: نعم أنا ولكن النصيب أوقعني بتلك المشكلة. وهنا تدخلت الوالدة وكانت تسمع حديثنا وكانت أكثر صراحة فقالت – وقد بدا على وجهها التأثر -: الله يجازيهم أولاد الحرام والمفسدين، ظلهم يشعوا على البنت لعند ما طلقوها. فسألت باستغراب: صحيح ! فأجابت الفتاة: نعم، لم يقتنعوا بكل ما قيل حول حالتي وأنا الآن مطلقة. فقلت آسف إن كنت أزعجتك. وهنا نادى الشرطي على اسمي وافترقنا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ماهي الدولة ؟؟هل للدولة دين ؟

لا تزال هناك صعوبات في تعريف الدولة , فالدولة مشتقة من كلمة STATUS أي حالة أو وضع , لذلك تعددت التعريفات الغير متفق على جزئياتها من قبل الجم...