كثيرا ما نسمع أحدهم يردد أنه يخاف من الظلام ،
وآخر يخاف الارتفاع ، وغيره يخاف البحر، وآخر يخاف من الثعابين . وهذه أشياء
موجودة في الواقع وملموسة ، وقد تثير مشاعر الخوف والتوجس وتتطلب الحيطة والانتباه
لتحاشي ضرر ما قد يحدث في حال التعامل مع هذه الأشياء دون معرفة سابقة .
ومن جانب آخر ،
نسمع أن بعض الناس يتكلمون عن الخوف من مسميات مثل الغول والغولة والعفريت وابليس
والأشباح والقتيل والجن والشيطان ، وأهورا
مزدا ، وأُولاهيم وعشتار وايزيس وأُزوريس وزيوس والعجل الذهبي ، وتنين انطاكية .
كل هذه المسميات
ليس لها في الواقع المادي دليل ملموس ممكن ان يؤثر التأثير المباشر على الجسم الحي
. ف " زيوس " و" بعل " وأوزوريس " و " إيزيس "
و"أولاهيم " و" العفريت والشبح الذي يطل علينا من القمر ، والشيطان
مفاهيم ندلل بها على تصورات ، أشياء مختفية عنا ، تكمن خلف كل ما نراه في هذا
الكون من كواكب ونجوم , وما نراه في الطبيعة من نظام وجمال ، وما يواجهنا من أحداث
محزنة . ولأنها مجهولة لدينا ، لذا فهي سر من الأسرار ، لهذا فإن وعينا الخيالي
يذهب معها الى الحد الأقصى من التضخيم والتفخيم ، وهذه الضخامة والفخامة تجعلنا في
الجانب الآخر نشعر بالصغار والخوف الذي يوحي
لنا بعبادتها وتقديم القرابين لها
.
وعن مسالة
الخوف من المجهول فقد ورد في كتاب تهذيب الحيوان للجاحظ كيف ان الاعراب كانوا
يتخيلون الجن والغيلان "فاذا استوحش الانسان تمثل له الشئ الصغير في صورة
الكبير ، وارتاب ، وتفرق ذهنه ، ... فرأى مالا يُرى ، وسمع ما لا يُسمَع ، وتوهم
على الشئ اليسير الحقير ، انه عظيم جليل . ثم جعلوا ما تصور لهم من ذلك شعرا
تناشدوه ، وأحاديث توارثوها فازدادوا بذلك ايمانا ونشأ عليه الناشئ ، وربي به الطفل
، فصار احدهم حين يتوسط الفيافي ، وتشتمل عليه الغيطان في الليالي الحنادس
(المظلمة) فعند اول وحشة و فزعة ، وعند صياح بوم
ومجاوبة صدى ، فقد رأى كل باطل وتوهم كل زور ... فعند ذلك يقول : رأيت
الغيلان ! وكَلمْت السعلاة ! ثم يتجاوز ذلك الي أن يقول : قتلتها ! ثم يتجاوز ذلك
الى ان يقول : رافقتها ! ثم يتجاوز ذلك الي أن يقول : تزوجتها ! ( تهذيب الحيوان
للجاحظ – مكتبة الأسرة – ص 230- 231 ) .
فلماذا الخوف
اذا ؟ إنه الخوف من المجهول !!!
فالمجهول لدينا
يثير فينا الخوف من المفاجأة ، من الغير مُتوقع ، وهذا يجعلنا لا نعرف مدى الضرر
الذي سيحدثه فينا ، فالمجهول يجعل الإنسان
يعيش حياته في حالة خوف وحذر وتَوقُع وتوجُس دائم .
ماذا يعني هذا ،
أي مم يخاف الانسان ؟
في نشاط
الانسان العملي ، كثيرا ما يواجه الإنسان معاضل وإشكاليات يستعصي عليه حلها ،
ويبدأ في محاولة فهمها والوصول الى حلول يكون فيها منفعة له . وهو يحاول قدر
الإمكان في حدود معرفته تجنب الوقوع في مشاكل تكون نتائجها ضارة له من قريب أو
بعيد .
فإذا كان ما
يواجه الإنسان في حدود معرفته وإمكانياته ، فلا مشكلة ، وأما إذا كان ما
يواجهه اكبر من إمكانياته المادية ، فإنه
يلجأ الى غيره من البشر طالبا مساعدته .
أما اذا كان ما يواجهه خارجا عن نطاق الإمكانيات
، فإنه يلجأ الى " الغيب ،
المجهول " ، " الرب " ، " الله " ،وهناك أناس يلجئون الى الجن ، الشياطين ، العفاريت . فكل الشعوب لها
آلهة بمسميات متعددة تلجأ اليها خوفا من عقابها , وطمعا في رضاها .
كيف نشأ الخوف
من الغيب ؟
الغيب في الوعي
البشري قديم ، قِدم وعي الإنسان ، فالإنسان حينما تفارق مع مرحلة الوحشية وبدأت
عنده مظاهر الوعي ، مثل مشاعر الخوف والفرح ، والسلوك المعبر عن هذه المشاعر ،
وتطورت أعضائه بحيث ملك القدرة على نطق الكلمات ، أي تكونت لديه أوليات المسميات
للأشياء والظواهر التي يتعامل معها في حياته ، ولما كان وعيه جنيني لا يستطيع
بالتحليل والتركيب الوصول لجواهر الظواهر الطبيعية من حوله ، تكونت لديه أيضا مسميات لتصورات مجهولة ،
وكان لعامل الخوف من المجهول اليد الطولى في تكون هذه المسميات ، فعدم فهمه ظاهرة ما ، أدخل في روعه أن هناك شيء ما
مخفي عنه – لا يفهمه ، لا يراه – يسبب هذا . فالبرق مثلا ظاهرة مستغلقة بالنسبة
لوعيه الجنيني ، فاعتقد أن هناك اله يسبب هذا الوميض المفاجئ في الأعالي . كما أن
الخوف من الرعد أوجد عنده إله الرعد . وعدم فهمه لكيفية سقوط المطر، أوجد عنده إله
المطر ، وعدم فهمه للشمس وقوتها الضوئية ، أوجد في تفكيره ووعيه إله الشمس ، وكذلك
إله للقمر والكواكب الأخرى مثل الزهرة
والمريخ . وكذلك أوجد آلهة للكثير من المظاهر والأشياء الطبيعية ، كالفيضان والحيوانات القوية .
ولما كانت
الكثير من مظاهر الطبيعة علوية ، أي تحدث في الأعالي ، السماء . أعتقد الإنسان
البدائي أن السماء هي مسكن الآلهة من كل الأنواع .
كما أن لظاهرة
الموت ، والتي يفقد فيها الإنسان القدرة على الحركة والكلام أثرا كبيرا في وعيه بأن أوجدت لديه مفاهيم
متناقضة ، هي مفاهيم " الحياة " و" الموت " . فالحياة تعني
الحركة والعمل والنشاط ومصارعة الحيوانات في الغابة ، وإشباع دوافعه من جوع وجنس ومشاركة اجتماعية .
في حين أن
الموت ، هو فقدان لكل هذا ، ويحوله الى شيء لا قيمة له ، فهو إما أن يُترك للحيوانات والطيور الجارحة ، أو يدفن في
التراب ويتحول الى جيفة نتنة وعظمة نخرة ويندثر .
إن ظاهرة
الموت كانت أكبر من أن يستطيع دماغ الإنسان في ذلك الزمن السحيق في التاريخ ان
يفهم أسبابها الجسمانية ، لهذا دخل في وعيه أن وراء ظاهرة الموت " إله
" له قدرة خارقة على سحب المقدرة على
الحركة والكلام من هذا الجسد ، وهذه المقدرة صورها في شيء ينفصل عن الجسد ، أطلق
عليه اسم " الروح " ، كما أن هناك تصور عند قدماء المصريين مفاده أن
الجسم بعد موته يترك بعده ما يطلق عليه " القرينه " التي تظل حية ولها
احتياجات كما لو كان الجسم حيا .
وكان للأحلام
دورا كبيرا في خلق تصور عن موجودات " أثيرية ", خيالية ، إسطورية ،غير
موجودة بكامل هيئها في العالم المادي ، وقد تكون أجزاء منها مأخوذة من موجودات في العالم المادي ، مثل الحصان
الطيار ، أو الغولة ذات الشعر المنفوش والأنياب الطويلة والعيون الطولية ،
والمأخوذة من الغوريلا الضخمة البشعة
المفترسه . وهذه الصور الخيالية أو أشباهها يتصور الانسان أنها تعيش في الأماكن
المظلمة ، أو الخربة والمغاور والغابات
الكثيفة ، وتظهر للناس في أحلامهم أو في الليالي المظلمة ، هي أو أصواتها .لهذا
دخل في روع الناس أن هذه التصورات الخيالية موجودة فعلا مع أن أحدا لم يراها ،
ولكن نُسجت حولها القصص والأساطير وكأنها موجودة فعلا وعاشت في زمن ما .
والإنسان
حينما يرى في أحلامه أشخاصا فارقهم عنه موتهم
، وكانوا يحضرون ويراهم في أحلامه ، ولا يجد لهذه الظاهرة تفسيرا . لهذا
دخل في وعيه أنهم يسكنون في الأعالي في
مكان ما ، أو في الغابات أو في الجبال الشاهقة , ويأتون لزيارته أثناء نومه , ثم
يعودون الى مجتمعهم الذي أطلق عليه "
عالم الأرواح " . ومجتمع الأرواح هذا ، هو حياة غير مادية ، روحية ، ليس بها
موت ، بل حياة أبدية بجوار الآلهة . و" مجتمع الأرواح " الخيالي هذا هو
مجتمع تعيش فيه كل الأرواح الخيرة من آلهة وملائكة ، والشريرة من شياطين وعفاريت ،
وذات أشكال متعددة ومختلفة في الطول والقصر ، ومنها الهوائية ومنها النارية ومنها الأثيرية
التي لها القدرة على الانزلاق والدخول في كل الأمكنة وأضيقها ،حتى في جسم الانسان
.
إن هذه
الظواهر قد زرعت أول ما زرعت في وعي الإنسان هو الدهشة و" الخوف " ,
الخوف من المجهول . إن دماغ الإنسان البدائي لم يستطع ان يوصله الى إدراك مسببات
هذه الظواهر ، ولم يكن يستطيع أن يتقي خطرها إلا باستخدامه أشياء بسيطة موجودة في
الطبيعة . فاتقاء المطر والبرق مثلا ، كان
باللجوء للكهوف أو محاولة بناء كوخ من الأغصان في الغابة .
كذلك يصادف
الإنسان البدائي في الغابة حيوانات قوية لا يستطيع أن يواجهها بمفرده ، بل كمجموع
، فهي تملك قوة كبيرة . لهذا نراه يتماهى مع شكلها ويرتدي جلودها ويحمل قرونها على
رأسه ، اعتقادا منه انه بهذا يملك قوتها ، ويصبح مهابا مثلها .
وبهذا
فالإنسان البدائي كان يواجه الخوف من اتجاهين :
الأول : ما
يواجهونه في الغابة من حيوانات ضخمة وقوية
، أو أثناء تصارعهم مع بعضهم البعض أو مع غيرهم من المجموعات البشرية . وهذا دفع
الإنسان الى تطوير أسلحة للصيد والحرب .
أما اتجاه
الخوف الثاني : فيأتي من السماء ، من
المجهول ، من الآلهة. فلما كان المطر والبرق والرعد يأتي من الأعالي ، اذا هناك
مسكنا للآلهة في الأعالي ، وهذه لا يمكن
مواجهتها بأدوات مادية ، أدوات من الطبيعة
، انها أكبر من أن تُواجه، إنها في الأعالي ، في السماء . من هنا يجب
استعطافها ونيل رضاها ، إما بالترجي ، بالدعاء ، وإما بعمل طقوس وصلوات ، أو
بذبح الحيوانات وتقديمها كقرابين شملت
أنواع متعددة من الحيوانات ،إرضاء للآلهة ، وأحيانا يقدم البشر كقرابين للآلهة
،فقد قدم امنحوتب الثاني سته من الملوك السوريين الذين أسرهم قربانا " لآمون
" ضحى بهم بيده .( قصة الحضارة – ول ديورانت ص80 ) ، وفي كل هذا فإن الإله لا يشرب دم القرابين
ولا يأكل لحومها ، بل البشر هم الذين يأكلون لحمها أو يشربون دمها أحيانا ، أو يُهرق على الأرض . إذن ما هي العبرة من
القربان ؟ الجواب جاهز ، إنه تقرب بالدم الى " الله " ، أو "
المعبود " المجهول .
والسؤال : هل
الآلهة بحاجة الى هذا الدم ، الى هذا القربان ؟ أم أن هذا هو تقليد وعادات موروثة
من الأقدمين ، بأن قمة الطاعة هي إهراق الدم ، ولو كان القربان انسان ، ان انتشار
ظاهرة القرابين يوحي أن الآلهة لدى بعض الشعوب القديمة جائعة ومتعطشة للدماء ،
وتنتشي لرائحة اللحم المشوي .
إن هذه المفاهيم
وهذه التصورات قد وجدت لها ترسيخا وثباتا في الأديان بوصفها نظاما إعتقاديا
شموليا يخلق نوعا من العزاء النفسي
والوجداني للمؤمنين بها .
وفي كل
الأديان الكتابية وغير الكتابية توجد عادة تقديم القرابين للآلهة لإثبات الطاعة
لها واستعطافها واستجلاب عونها على الأعداء ، كما تعتبر وسيلة للتخلص من الخطايا ,
إن هذا هو ميراث ارتدى صفة القداسة ووجد تدعيما له من الأديان .
من الملاحظ
أن الأنبياء والفلاسفة والمصلحين ، لم يبدأوا
بتعظيم الخوف في دعواتهم بل
انتهجوا اسلوب الإقناع والترغيب ، فكل
القصص المأخوذة من الميراث المقدس أو التاريخ المكتوب تقول أن آدم لم يضرب أبنائه ، وإبراهيم دعى الى قناعاته بالمحاورة
، وكذلك المسيح لم يدعو الى العنف ، بل حاور الفريسيين ، وسقراط سعى الى المجادلة
واعتماد اسلوب التساؤل والإقناع ، وحتى
الدعوة المحمدية بدأت كدعوة هادئة لسنوات ، ولكن حينما كثر أتباعه وتركزت مقومات
دولة النبي في المدينة ، بدأ بانتهاج العنف في نشر دعوته ، وخَيرَ من لم يتبعه بين
الدخول في دعوته او الغزو ودفع الجزية ، أي الإخضاع بالقوة ، وظل هذا منهج
يتبعه المسلمون على طول التاريخ كلما
أحسوا بقوتهم . وأيضا حينما اعتنق الامبراطور الروماني قسطنطين الأول المسيحية ، جعل من المسيحية الديانة الرسمية للدولة الرومانية
، وفرضها على الرعية ، مع أن المسيح والرسل لم يدعوا أو ينتهجوا هذا السلوك بفرض
معتقداتهم على الغير، او بتعظيم الخوف من الرب في دعواتهم . ولم يدخل عنصر الخوف
الى الدعوات إلا حينما تحالفت السلطة ،
" الدولة " مع الدين .
ولكن كيف وصل
الخوف الى الشعب من جهاز الدولة ؟
حينما تحالف
الحكام والملوك مع الدين وجدوا في الدين ضالتهم المنشودة فتركز حكمهم ، بان أصبحوا ممثلين للإله في
الأرض ، ووجدوا ان الإيمان بالإله الواحد يعني القبول وعدم التمرد على الحكم
الواحد ، الملك ، ووجدوا في صفات الرب بأنه شديد العقاب وسيلة لتثبيت حكمهم وزرع
الخوف بين الناس .
لما كانت
التجمعات الكبيرة من الناس قائمة على المنفعة الاقتصادية ، من هنا يجب اخضاع
الميول الفردية لمصالح المجموع ، المجتمع . فالدولة تقوم بفرض قوانينها على
الأفراد بالوسائل المادية المنظورة من شرطة وسجون ، ولكن هذا لا يكفي في أغلب
الأحيان . اذن هي بحاجة الى الحارس المخيف والغير منظور وذلك لتقوية الدوافع
الاجتماعية ضد الدوافع الفردية بما تثيره فيهم من آمال قوية ومخاوف قوية . وهذا
الحارس الغير منظور هو الدين .
وفي هذا يقول
الجغرافي القديم " سترابو " :
" انك في
معاملتك لأية مجموعة من الناس ، اجتمعت كما اتفق ، لا تستطيع بالفلسفة أن تؤثر
فيهم . انك لا تستطيع ان تؤثر فيهم بالعقل ، أو أن تقنعهم اقناعا بضرورة الوقار
والورع والإيمان ، كلا ، بل لابد لهم من
الخوف الديني أيضا ، ولا يمكن اثارة الخوف في نفوسهم بغير الأساطير والأعاجيب ،
فالصواعق والدروع والصولجانات والمشاعل ورماح الآلهة ، كل هذه من الأساطير ، وكذلك
منها اللاهوت القديم من أوله الى آخره ، لكن مؤسسي الدول حرصوا على هذه الأشياء
باعتبارها عفاريت يفزعون بها السذج من الناس " . ( قصة الحضارة – ويل ديورانت
– المجلد الأول - ص 97 ) .
*** قال مكيافيللي في نصيحته للحاكم انه يجب عليه
"حماية الدين ولو كان هو نفسه لا يؤمن به لأن الدين يعاونه على حكم الجماهير
وعلى تثبيت سلطانه."
قال المنصور الخليفة
العباسي " انما أنا سلطان
الله في أرضه ، أسوسكم بتوفيقه وتسديده , أطيعوني ما أطعت الله فيكم " . وهذا
يعني أن من خالفني ، فهو يخالف الله لأني ولي أمركم في هذه الدنيا .
.ونرى أن مظهر الخوف هذا له جذور تاريخية وله علاقة
بالثقافة والموروث المقدس في حياة كل مجتمع . إن انتشار الخوف بين الرعية له
انعكاس على الأخلاق والضمير والبنية الثقافية في المجتمع ، من قوانين وعقوبات ،
والأهم من هذا ابتداء سلسلة الخوف من الله وامتزاجها بالخوف من الدولة ، ونظام
الحكم سواء كان سلطان أو ملك أو خليفة أو حكم فردي .في حين يجب التفريق بين الخوف
من المعبود والخوف من سلطة وأجهزة الدولة الظالمة .
ولكن لماذا
التقت مصالح الدولة والحكام مع الدين ، لماذا هذا التزاوج بين الدين والدولة ؟ ذلك أن كلاهما يرتبط وجوده بأن يكون فوق
المجموع ، ومسيطر على المجموع . فالدين
يُخضع المجموع بالخوف والترهيب من الآلهة في الحياة ومن عقابها بعد الموت .
ووسيلته زرع الأمل والترغيب في حياة فاضلة بعد الموت في الجنة . وهذا الاعتقاد
يخلق مجموعة من المطيعين لأولي الأمر والمسالمين والقانعين والمؤمنين بالقضاء
والقدر خيره وشره ، وأن الحياة مَعبرْ ، ولا تطمع في مال غيرك ، أي لا تمدن أعينك
للذي متعنا به غيرك ، فهذا حسد ، وعليك بالأعمال الصالحة لأنها هي الطريق الى
الجنة .
أما الدولة ،
فتقوم مصالحها على السيطرة على الشعب ،
الجموع الغفيرة من الناس ، وذلك بزرع المفاهيم التي تجعل وجودها بهذا الشكل دائم ،
وقمع التمرد عليها بكل الوسائل . فالعنف مرتبط مع الدولة منذ ظهورها في التاريخ .
فقد قامت إما لإدارة الحروب ،أو لإخضاع الجموع من الناس لسلطتها .
فالدولة هي
جهاز للعنف تسيطر فيه قلة ، طبقة من الناس بالعنف على الجموع الغفيرة في البلاد .
ومنذ ظهرت الملكية الخاصة في المجتمع الانساني ، أصبح قِلة من المالكين للثروة
ووسائل الانتاج ، هم الذين يسيطرون على جهاز الدولة ، ويخضعون بالعنف الجموع
الغفيرة الغير مالكة من الشعب ، والتي بحكم فقرها ، وعدم ملكيتها لوسائل العيش ،
تخضع للسخرة والاستعباد وتضطر للعمل في ممتلكات الطبقة المالكة . وهكذا كان في
التاريخ أسياد مالكين وعبيد مملوكين ، واقطاع مالكين للأرض , وفلاحين وأقنان لا
يملكون شيئا ، وأيضا في المجتمع الرأسمالي توجد طبقة البرجوازية المالكة لأدوات
الانتاج وتسيطر على جهاز الدولة ، وطبقة البروليتاريا الغير مالكة ، ولكي تعيش تضطر للعمل لدى
المالكين لوسائل الانتاج .
ان مصلحة
المسيطرين على جهاز الدولة ومصادر الدخل الوطني في البلاد تكون مع عدم التغيير ،
بل بقاء الوضع كما هو عليه ، تحت سيطرتهم ، ولتحقيق هذا الهدف يجب إبقاء الناس في
حالة عدم فهم للواقع ،جهلاء ،عن طريق تزييف
وتشتيت المفاهيم لدى الناس عن الواقع ، وهذه المهمة يقدمها الممثلين
الرسميين للدين عن طريق الفتاوي والتركيز على جملة من المسلمات الموروثة ، والتي
تُبقي النظام العائلي ، السلطاني ، الملكي الوراثي كما هو . وبالأخص تبقي التقسيمة
الطبقية في المجتمع كما هي ، وإقناع الناس أن وجود ناس فوق ، وناس تحت ، هي سنة الله في خلقة ، وأن هذا هو الوضع الطبيعي
في الكون , ولا مجال لتغيير هذا الوضع الاجتماعي أبدا .
واذا ما ظهرت
بوادر للتمرد على سلطة الدولة ، فالشرطة والسجون والقمع بكل الوسائل جاهزة للتصدي
لدعاة التغيير والثورة والمطالبين بالحرية . كما أن المشايخ وممثلي الدين بكافة
أطيافهم جاهزون لمساندة السلطة القائمة بالفتاوي والندوات وتفسير النصوص الدينية
لصالح النظام القائم . ولا مانع لديهم من نعت الثوار بالمفسدين في الأرض والمخربين
. ففي كل نظام جملة من ممثلي الدين لتبييض صورته في عيون الجموع الغفيرة من
الناس في البلاد .
ويبقى هنا
السؤال : هل الخوف يقتصر على الأفراد في المجتمع ؟ بالطبع لا ، فالمؤسسات العسكرية
لا تعيش إلا على السرية ، وتخاف من نشر أي معلومة عنها على الملأ , فالسرية لعدد
الجيش وامكانياته المادية وتشكيلاته ذات أثر كبير لنجاحها .
كما أنه لا يمكن
تجاهل السرية التي تحيط بها المؤسسات العلمية ذات المنحى العسكري ، خصوصا في الدول
التي تتنافس على الأسبقية في تطوير نفسها عسكريا وفي علوم الأرض والفضاء .
والنظام
الديكتاتوري والملكي الوراثي يخافان من أن يتداول الشعب المفاهيم السياسية مثل
: الثورة والديمقراطية وحرية الانتخاب
والتطور الاجتماعي ، وتداول السلطة وحرية الرأي واستقلالية الصحف .
فالطغاة
والحكام المطلقون يدركون تماما أن التعلُيم والكتب تحمل الخطر في طياتها ، لأنها
ممكن أن تصب أفكارا استقلالية متمردة وتشهيرية في عقول رعاياها . ولا يعنيهم أن
التعلُم والتعليم هو الطريق الى العلم ، وهو الذي يخلق الدوافع للاكتشاف والاختراع
ولحراك اجتماعي الى أعلى ودفع دم جديد متعلم يؤمن بالتطور في كل نواحي الحياة
الاجتماعية والاقتصادية والفكرية .
إن الخوف من
انتشار المفاهيم الجديدة لا تجده الا عند أنظمة الحكم السائرة في الطريق الخطأ ،
وما يعنيها هو خلق جيل مُفرغ من الدوافع للخلق والإبداع ، خلق جيل مُدجن لوقوعه
تحت نظام تعليمي من الحد الأدنى ، بما يلبي رغبات نظام الحكم دون زيادة .
ان هذا يترك
أثره السلبي على المجتمع ، فحركة التطور الفكري والاجتماعي تبقى ساكنة ومتباطئة ،
مما يترك أثره على تردي الخدمات الصحية ويكثر الفساد الحكومي وتزداد معدلات
الجريمة , وينخفض مستوى الدخل القومي . وبالتالي تزداد الحاجة الى الاستيراد ،
وتنخفض الحاجة الى التطوير الصناعي ، مما يزيد وتيرة هجرة العقول ، وعدم القدرة
على صعود الدرجات الدنيا من السلم الحضاري .
كما أن المؤسسة
الدينية تخاف من أن يتعرف الجيل على الآراء الفلسفية والنظريات العلمية الجديدة ،
إلا من خلال ما تروجه هي وتحاول أن تُعمم وجهة نظرها وتفرضها على المؤسسة
التعليمية في البلاد . فمثلا في جميع الدول العربية يُمنع تدريس الفلسفات بأنواعها
، وخاصة فلسفة المادية الجدلية ، والفلسفات الداعية الى التحرر والديمقراطية . كما
يُمنع تدريس نظرية التطور ، " النشوء والارتقاء " لتشالز داروين .
وفي الحياة
العادية يظهر الخوف بمظهرين : الخوف من المعلوم ، أو من المجهول المعلوم ، أي يكون
مجهول لي ومعلوم لغيري .
ففي الحياة
نجد الخوف هو السبب الكامن خلف الكثير من السلوكيات الفردية في المجتمع ، فالخوف
من الفصل من الوظيفة يدفع الموظف إلى الذهاب بانتظام الى العمل ، والخوف من
التوبيخ يدفعه لإتقان العمل وعدم التأخير ، وأن لا يضع نفسه في موقف يستوجب
التوبيخ .
وفي المدرسة ،
فلكي يتفادى التلميذ العقاب يسرع الخطى لكي يصل المدرسة قبل قرع الجرس . والخوف من
المخالفة يدفع سائقي المركبات إلى الالتزام بقوانين السير وعدم اختراقها .
فسلسلة
الخوف يبدأ ترسيخها في الوعي منذ الطفولة ، حيث يتم توجيه الأطفال من الوالدين
بتكرار التحذيرات من كل تصرف غير لائق اجتماعيا ، او كل سلوك له نتائج خطرة .
وبتنامي الوعي وتبيان المنافع والأضرار المترتبة على الفعل ، يعتاد الجيل على
السلوك الايجابي والغير خطر . فالخوف من المعلوم يزول بالوعي بالتربية والمعرفة
والتعلم والالتزام بالقوانين .
أما الخوف من
المجهول لك ، والمعلوم لغيرك . فيزول بقابلية التعلم والصدق والإخلاص في المعاملة
بين الناس وكشف الحقيقة انطلاقا من الشعور بالمسئولية والتعاون البناء بين أفراد
المجتمع .
أخيرا فإننا
نرى أن الخوف يرجع في الأساس الى الجهل ، الجهل بالذات ، والجهل بالمجتمع ، والجهل بالتاريخ ، وهذا ما أورث الخوف لدى
الإنسان ؟ فأينما يكون الجهل أكثر يكون
من السهل السيطرة على الإنسان بتكثيف سلسة الخوف في وعيه . وأشد أساليب الخوف قوة
، هو الخوف الذي قام عليه الميراث الشعبي ، وهو الخوف من المجهول ، ومن خطر
المجهول : الشيطان ، العفاريت ، إبليس ، عزرائيل واسرافيل .
قد يقول قائل
إنني لن أخاف من أي شيء ما دمت أعمل بالوصايا الدينية . ونقول ان الايمان مبني على الخوف من المجهول
ويضاف إليه الخوف من الدولة ، السلطة ،
الحاكم ، الذي هو ولي أمرك .
إنك لا تملك
حريتك ما دام هناك خوف ، ولا يمكن ان تتخلص من الخوف إلا بالوعي ، بمعرفة المجهول بشتى صوره ، وكيف دخل الى
وعيك هذا الخوف ، وأصبح يتحكم في مسلكك
اليومي من صحوك الى نومك . إنه الميراث الفكري الذي ورثته من المجتمع الذي تعيش
فيه ، وارتدى صفة القداسة في وعيك . ولو
وُجدت في مجتمع آخر ، لكانت مقدساتك وأفكارك غير التي تؤمن بها الآن .
لكن كيف نتخلص
من عقدة الخوف ، سواء الخوف من المجهول ، أو الخوف من المعلوم ؟
والجواب :
انه اذا عرفنا مسببات الخوف ، وكيف دخل
الخوف في وعينا , وما هي العوامل التي تزيد من قوة تأثيره علينا ، عرفنا كيف نتخلص
من الخوف بإزالة المسببات .
**
بالوعي ،وفهم تراكم الميراث الفكري
في وعي الأجيال وكيف أصبح من المسلمات الغير قابلة للتغيير وكيف ارتدت صفة القداسة
.
** نستطيع أن
نتخلص من الخوف , بالعلم والفلسفة وفهم التاريخ الإنساني وتطوره على مر العصور
وكيف وصل الإنسان الى هذه الدرجة من الحضارة والرقي .
** نستطيع التحرر من الخوف بالعمل على كسر التحالف الغير
مقدس بين سلاطين الأرض وسلاطين السماء الذي دام قرون وقرون .
** نستطيع أن
نتخلص من الخوف بإخضاع كل شيء للمعقولية ، والتمسك بأن لكل شيء سبب معقول المقترن
بالتواتر السببي .
** نستطيع أن
نتحرر من الخوف بزرع الجرأة وتقوية الرغبة في التحرر من الجدر الصلبة التي بنتها
في وعينا جملة من المسلمات الممتزجة بالأساطير .
** نستطيع
التحرر من الخوف بالاعتراف بأن معيار الحقيقة هو مطابقة الواقع ، هو الاختبار ، هو
التجربة ، والإخلاص لها .
وأخيرا ، لا
ننسى أن هناك من ينادي بضرورة الخوف من قوة عليا ، لأن هذا الخوف هو ركيزة لحفظ
أخلاق البشر . ونرى أنه بالوعي والأمان الاجتماعي والاقتصادي تسود الأخلاق
الجماعية .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق