الاثنين، 30 سبتمبر 2013

لمن أكتب مقالاتي ؟



" أكتب لأنني لا أستطيع أن أتحمل الحقيقة وحدي " ، " أورهان باموك "

فكرت كثيرا في جواب السؤال : لمن أكتب مقالاتي ؟ فكانت الأجوبة تترى لا أعرف أيها أختار منها .
هل أكتب مقالاتي لمن يحب المعرفة والثقافة و لمن يجد المتعة في التعرف على المعرفة الانسانية حتى تنكشف لهم أجوبة عن وجودهم على هذه الأرض ، بل و معنى وجودهم في مجتمع إنساني و لتذكية طموحهم نحو الأفضل .
أم أكتب مقالاتي لأصحاب العقائد الدينية ودعوتهم الي الإطلاع أكثر لمعرفة أن الدين وُجد لخدمة الانسان وأن يكون لديه الوعي والالتزام الحضاري.
أم أكتب مقالاتي لطبقة الفقراء لكي يعرفوا سبب فقرهم ، وكيف يتخلصوا من هذا الفقر .
أم أكتب مقالاتي للأغنياء الذين كل همهم مراكمة الثروة والاستمتاع بتكديسها، قائلا لهم أن هذا السلوك يظلم الآخرين ، فما زاد في كفة الا نقص من غيرها .
أم أكتب مقالاتي لمن يعيشون في ظل حكم فردي أو عائلي أو دكتاتوري يسيطر على الدخل الوطني ، لكي يعرفوا الوسائل للتخلص من هذا الحكم الجائر .
أم أكتب لمن يحبون العلم وينتظروا بلهفة كل جديد في المكتشفات العلمية ،و الاستزادة من الوعي العلمي الذي يرشدهم الي الحقيقة وينمي لديهم الجرأة للتخلص من ما تلقوه من المناهج في المدرسة عن طريق التلقين و التحفيظ من أجل النجاح .
أم أكتب بطريقة منهجية لخلق دافع للقارئ للبحث ولتنمية الرغبة للمعرفة وحب العلم وخلق مناخ للفهم العلمي .
أم أكتب لتدعيم نظام اجتماعي واقتصادي أرى أنه يلبي طموحات الشعوب نحو التحرر من كل ظلم .
أم أكتب داعيا للوعي العلمي والالتزام بالحقيقة التي يركن اليها العقل والتخلص من الخرافة المبنية على الجهل و اللامبالاة .
أم أكتب لمن يريد أن يعرف كيف يتحرك الزمن وكيف تتراكم الأحداث ضمن قوانين شاملة تكشف لنا كيف تتطور أشياء الطبيعة والمجتمع والتاريخ والتفكير الانساني .
أم أكتب لمن لديهم الكثير من التعنت المشحون بالتخويف من الموت وعذاباته . والدعاة الذين يحشرون المقدس واسم الله بسرعة في أقل المواضيع أهمية ، والذين ينصبون أنفسهم خارج القانون كوعاظ و شرطة دينية وأخلاقية .
والسؤال من أعطاهم هذا الحق ليكونوا كذلك ؟
إن هؤلاء يؤمنون بالدين الشكلي وليس بالدين كمعاملة ، الدين كفهم ، الدين كعلاقة نقية بين العبد وربه ، الدين هو العزاء للإنسان في الدنيا و الاخرة ، وأن الدين صالح لكل زمان بالتكيف مع روح العصر في تنظيم وتركيب المجتمع .
أم أكتب لمن يؤمنون بأن الحقيقة المطلقة وصلتنا دفعة واحدة ، ولا تُعرف بالتدريج ، وما الغاية من وجودنا غير الالتزام بها لأنها هي طريق سعادتنا في هذه الدنيا .
أم أكتب لمن يحب الفلسفة ولديهم حالة من الاندهاش تثير لديهم العديد من الأسئلة التي لم يسعفهم ما لديهم من معرفة في الاجابة عليها ، لهذا فهم في حالة بحث ومحاولة لتنمية وتنظيم وتنقية معارفهم عن الطبيعة والحياة والمجتمع والتاريخ .
أم أكتب لمن يريد أن يعرف كيف يسير التاريخ من الأدنى الى الأعلى مدفوعا بقوانين التضاد والتراكم التجديدي و نفي النفي في طريق أبعد أن يكون مستقيما بل متعرجا وحلزونيا متصاعدا دوما ، وما حالات التباطؤ والسكون إلا حالات نسبية مؤقتة .
أم أكتب لمن لا يرى أن التاريخ الاجتماعي الإنساني هو مراحل تتفاوت في مدتها الزمنية ، وأن كل المجتمعات البشرية قد سارت من مرحلة الوحشية الي البربرية الي الانسانية التي أفرزت الإنسان عن الحيوان عندما تطورت لغته ووعيه ، فسن قوانين اجتماعية وأخلاقية .
وأن التاريخ مراحل كشفت لنا طريق طويل من المشاعية البدائية الي مرحلة العبودية فالإقطاع فالرأسمالية وصولا الى مجتمع الكفاية والعدل.

أم أكتب لمواطن اضطره القهر والديكتاتورية لمغادرة وطنه ، داعيا إياه أن يعود الى وطنه ، لأنه حدثت تغيرات في البلاد ، وزال القهر وسادت الحرية والديمقراطية ، وعليه ألا يتخلف عن المشاركة بفعالية في بناء البلاد .
وهل أكتب لشعب ليس لديهم دستور ، ولا عقد اجتماعي مع الجالس على الكرسي ، وأدعوهم الى أن يكون لهم دستور ينظم حياتهم وعلاقاتهم مع جهاز الدولة بما يضمن كرامة الانسان وحريته وطموحاته .
وهل أكتب لشعب لا تنطبق عليه مواصفات شعب ، ولديهم من الفلتان الأمني والقانوني وتفشي العائلية والتكتلات والبلطجة ما يجعل الفرد العادي يعيش في حالة من الخوف وعدم الأمان على ماله وحياته وأولاده ، داعيا لهم أن يلتفوا حول الأحزاب الأكثر تنظيما وانضباطية ليأخذوا زمام المبادرة للتغيير .
وهل أكتب لشعب داعيا إياه أن ينتبه للأحزاب التي تؤمن بالحرفية الحزبية في الادارة والتوظيف مهملة مبدأ تكافؤ الفرص ، ولا تعترف بمفهوم المواطنة للجميع في البلد الواحد .
وهل أكتب لشعب ليس لديهم صحافة متعددة المنابر ، وكل شيء يعتبر من الأسرار العسكرية ، وبهذا تختفي النواقص وتتراكم الأخطاء دون اصلاح ، والشعب يعيش في حالة من الجهل والعزل والضياع .
وهل أكتب لمن لا يعرفون أن حرية الكلمة ، وحرية الرأي حق لا يجب المساس به ، وأن لكل مواطن الحق في التعبير عن رأيه ونشره بالقول أو بالكتابة ، أو غير ذلك من وسائل التعبير ، وأن هذا وارد في الدستور ، والذي يمنع فرض القيود عليها .
وأتساءل : كيف يبيح أي شخص لنفسه بإسم أي سلطة زمنية أو دينية أن يكون وصيا على عقول الآخرين من أبناء شعبه ، لا لشيء إلا لمجرد اعتقاده أنه هو على صواب وهم على خطأ ، أو هو على حق وهم على باطل ، أو أن لهم توجهات حزبية تختلف عنه .
وهل أكتب لضابط أمن المنشورات الذي يتصيد كلمة في هذا المقال أو ذاك التصريح ، أو تلك المناقشة لكي يعطي أوامره لكسر ذاك القلم أو اغلاق ذاك الفم وتقصير ذلك اللسان . داعيا ذلك الضابط أن يتذكر أن ليس بهذه الوسائل تُخدم الأوطان ، وأن الشعوب المتحضرة ما وصلت الى هذا إلا بإشاعة الحرية والنقد والنقد الذاتي .
وهل أكتب لمن هم في يدهم تقرير المناهج المدرسية للجيل ، لألى يجعلوا من التلقين والصم والحشو الآلي وسيلة لتعليم النشىء المعارف ، بدلا من الفهم ، وأن اشاعة التفكير والنقد والتساؤل هو الوسيلة التي تربي الجيل على المعرفة الحقيقية النافعة ، والتي لها مردود فعلي في التربية والبناء والتطوير .
ان التلقين والصم هو إلغاء للعقل ، هو إلغاء لإمكانية التفكير ، هو تعطيل لملكة النقد والتساؤل ، ولها انعكاسات سلبية في تخريج جيل من البصمجيين السهلي الانقياد ، والذين ممكن استخدامهم لأهداف ليست ضد شعبهم ودينهم فقط ، بل وضد انفسهم . فكثير من الأنظمة الديكتاتورية اعتمدت هذا الاسلوب فخلقت أجيالا من الشباب ، واستخدمتهم لتركيز بقائها في الحكم لعقود طويلة .
وهل أكتب لتاجر يتصيد التوترات وينشر الدعايات الاقتصادية والاجتماعية التي ستجعل البضاعة المكدسة في مخازنه تدر عليه أرباحا اسطورية ، قائلا له أن هذا لم يقره ، لا أخلاق انسانية ، ولا دين ولا قانون وضعي .
وهل أكتب لمن لديه آراء ووجهات نظر تختلف عن الآخرين ، أن لا يلجأ الى الاتهامات اللا أخلاقية والمروق والهرطقة ، أو التهديد بالعنف . وعليه أن يلجأ الى الاسلوب الحضاري بمقارعة الحجة بالحجة ، وطرح الفكرة مقابل الفكرة ، وأن يؤمن بأن الاختلاف في الرأي طريق الى الصواب ، لا الى الحرب ، طريق الى البناء ، لا الى الهدم .
لقد تداخلت عندي الإجابات على هذا السؤال حتى أنني لم أستطع أن اكتفي بإجابة واحدة شاملة تشفي الغليل .

أخيرا في هذه المرحلة العصيبة ، المرحلة الضبابية في كل شئ في حياتنا بل وفي مفهومنا الذي جرى تشويشه وتسريبه للناس بطريقة تبدو وكأنها مبرمجة أحيانا .
هذه المرحلة تجد الفرد في حالة فقدان اتجاه لما يواجهه من عدم قدرة على فهم الهوية الوطنية ،فقد مل من حالة انتظار الفجر ، ويعيش حالة من القلق الدائم في ليله ونهاره ، في حاضره ومستقبله . وكل فرد يتساءل : متى الخروج من هذا ؟ .
أعود فأقول انني أكتب لكل هؤلاء ، لمن يريد المعرفة ، لمن يحب المعرفة بكل فروعها العلمية والفلسفية و الاجتماعية .
ولكني لا أقصد من كتابتي هذه فئة معينة أو دين معين أو حزب معين أو نِحلة أو طبقة معينة تستهدفها كتاباتي بالنقد المخصص لها ، فكل هذه الفئات وكل الأحزاب لها أدبياتها ومبادئها و تفرعاتها التي تحوي الخطأ والصواب ، وتحوي من النقد للآخر بطريقة أو بأُخرى ، ما لا تتسع له مئات الكتب .
وما نكتبه هو دعوة للتفكير والتمحيص والتدقيق في كل معارفنا ، وهي دعوة لزيادة المعرفة حتى تكون حصيلتنا المعرفية أقرب الى العلم والحقيقة منها الى الخرافة والاسطورة ، فهناك الكثير من الأساطير ، مثلا : هناك من يعتقد أن الزلازل تحدث بسبب أن الأرض محمولة على قرني ثور ، وكلما تنقلت الأرض من قرن الى قرن حدثت الزلازل .
وأيضا ان مثلث برمودا هو مملكة الشيطان ، فمنذ ظهور الديان التوحيدية هرب الشيطان الى مثلث برمودا . ( قوقل – مثلث برمودا مملكة الشيطان ) .
انها دعوة لا تؤمن بالحدود الحزبية ولا القومية ولا العرقية ولا الجنسية ولا الجغرافية ، فهي دعوة لمعرفة ما عرفته الانسانية من علوم عبر تاريخها الطويل في صراعها من أجل البقاء .
انها دعوة لزرع الثقة والوعي ولتنمية الشخصية الفاعلة النشيطة والمشاركة الفعالة لخدمة المجتمع ، انها دعوة لكي يتعرف على حقوقه كانسان .
انها دعوة لممارسة الحرية بوعي بعيدا عن الفوضى التي تثيرها النزعات الفردية الجامحة . وانها دعوة لإشاعة الحرية الفكرية ، فمن تلاقح الأفكار ينتج الأحسن الذي ينتشر لحسنه ويتمسك به الناس ، أما السيئ فيذوي ويضمحل . ان الارهاب الفكري يخلق النفاق والغش والخداع ، ويقتل الابداع والتجديد .
انها دعوة لكل انسان أن يكون شعاره : اطلبوا العلم ولو في الصين ، بدلا من اطلبوا العلم ولو في اطلنطا !!!
قد يقول قائل ان هذه الكتابات ضدنا ، فهو يذكر تاريخنا بسوء .
إن هذا الفهم خاطئ ، فلا نذكر تاريخ أحد بسوء بل نذكر الشيء السيء في التاريخ ، والذي يوافق الجميع على أنه سيء ، لكي لا يتكرر . فمثلا ، حينما نذكر استغلال الدين في التاريخ ، نذكر محاكم التفتيش و صكوك الغفران ، وكيف أن الاستعمار الذي كان شعاره فرق تسد ، قد قسم الهند الي دول لها سمات دينية ، وكيف تكرر هذا في السودان ونرفض القتل باسم الدين أو بسبب الدين كما يجري الآن في ميرامار .
وحينما نذكر أنظمة الحكم نرفض كل نظم الحكم الفردية والدكتاتورية الحزبية وأشباهها مهما اختلفت المسميات ، وندعو الي التعددية والحرية والانتخابات وتحديد فترة الحكم دستوريا .
وحينما نذكر التاريخ نرفض ما فعله معاوية حينما سن التوريث في الحكم بقوة السيف والخديعة ، ونرفض ما فعله ابنه يزيد في موقعة " الحَرة " في المدينة التي راح ضحيتها مئات من صحابة رسول الله وآلاف من الموالي ، واستبيحت فيها العذارى .
ان تاريخ نظام الخلافة ما بعد الخلفاء الراشدين هو اكثر الانظمة فردية ودكتاتورية وتآمرا من أجل السلطة لا يمكن ان تجد خلفها أي وازع ديني .
كما نرفض استغلال الدين في الحروب الصليبية ، وما قامت به كنائس اوروبا من تحريض المؤمنين بالمسيح على تحرير القدس من المسلمين .
كما نرفض احتلال أي بلاد باسم الدين ، أو قتل أي انسان بدعوى دينية وتحت مسميات مختلفة . كما ونرفض تقسيم مواطني الدولة على أساس ديني ، فالمواطنة حق لكل من يعيش في الوطن بغض النظر عن توجهه الديني .
هناك أخلاق لكل أمة ولكل شعب ، وهناك دستور يحدد من خلاله طبيعة الجُرم وطبيعة العقاب . فمعنى ان هذا المجتمع انساني ، أي مجتمع أخلاقي ومحكوم بقوانين ودستور يتم الاتفاق عليه وإقراره اجتماعيا ، ويصبح مُلزم للجميع . وتقوم أجهزة الدولة المنتخبة بفروعها التشريعية والتنفيذية والقضائية بالالتزام بهذا الدستور .
والدستور لا يُؤخذ من دين لوحده أو يخدم أتباع دين معين ، أو فرقة أو نحلة ، أو حزب ، أو طبقة , انه يجب أن يخدم المجتمع بكامل طبقاته وفئاته ومواطني الدولة بغض النظر عن الدين أو الجنس أو العرق .كما أن الدولة جهاز يقف كبنية فوقية لإدارة شئون المجتمع حسب الدستور ، وليس لها أي صفة مقدسة ، وليست ملك لأحد ولا حزب ولا عائلة ، ولا يمكن وصمها بأي سمة دينية ، أو أيديولوجية .
فلمن أكتب ؟ أكتب لإنسان يعرف قيمة الزمن ، فلا يضيع وقته في الغوص في الكهوف المظلمة من المعارف المشتته للتفكير دون أن يكون معه النور ، العلم ، معيارا للحقيقة التي هي نقيض الضلال والخطأ .
ان الفرق بين الانسان والحيوان هو أن الحيوان يسعى دوما الى ملء أحشائه بالطعام ، وهذا هو هدفه النهائي ، أما الانسان ، فهو يُشبع غرائزه بطريقة منظمة اجتماعيا وأخلاقيا وقانونيا .
ولا يقف عند هذا الحد ، فهو بحاجة الى الاشباع الروحي العقلي بالمعرفة العلمية الحقيقية التي تخدمه في سكونه وحركته ، فرده ومجموعه كانسان .
ان على البشرية أن تفخر بعلمائها وعقلائها ، وأن على العلماء أن يتذكروا أنهم لا زالوا أطفالا في طريقهم هذا لمعرفة العالم ، ولم يبلغوا سن الرشد بعد ، وأنهم لن يصبحوا كهولا الى الأبد . فالحقيقة لا زالت بعيدة ، وبالعلم نقترب منها رويدا رويدا .
إن نهم العلماء لا يعرف التوقف وعطشهم الى المعرفة وفك طلاسم الوجود لا يرويه جواب واحد ، فمن سؤال الى اسئلة في كل الاتجاهات ، ومن جديد الى جديد في حلقة تصاعدية وتفرعات نامية متطورة في حركة ديناميكية لا تعرف الاستراحة ولا الكلل ن هذا هو فضاء المعرفة الانساني .
أن تكون انسانا علميا ، هو أن تجعل المنهج العلمي والتجربة هاجسك الدائم في التقييم ، في اخضاع كل المنظومة الفكرية التي تعرفها ، كل ما تسرب الى وعيك للتجربة ، وتبدأ من جديد ، انسان علمي جديد ، ذلك أن العلم أكثر من كونه معرفة ، انه طريقة واقعية للتفكير .

الجمعة، 13 سبتمبر 2013

العرب وخداع النفس

كثيرا ما نسمع أن شخص لديه من الامكانيات الجسدية أو العقلية ما يمكنه من انجاز أفعال خارقة ، وعند اخضاعه للتجربة والامتحان تنكشف ادعاءاته ويظهر ما بها من زيف . وفي فترة الانتخابات البرلمانية تعرض الأحزاب برامجها التطويرية والنهضوية التي تسحر الناخبين ، وبعد النجاح في الانتخابات يظل الوضع في البلاد كما هو عليه سابقا ، ولا يلمس الشعب لا تطوير ولا تغيير في الأساليب الادارية السابقة ، وينكشف أن الهدف هو السيطرة على السلطة وخدمة الحزب بدل من خدمة البلاد والشعب .
ان أساليب الخداع المتعددة هو ما نلمسه في المحيط العربي ، من عدم وجود النية الحقيقية من قبل الحكام لخدمة شعوبهم ، وفي نفس الوقت فان استمرار أنظمة الحكم لعقود في الحكم وعدم تحرك الشعب للتغيير ، وان حدث فهو تغيير في الشكل . فان هذا يدل على ان العرب حكومة وشعوبا يعيشون حالة من خداع النفس ، وأن لديهم جملة من المعتقدات التي تجعلهم لا يستطيعوا الخروج من حالة الوهم هذه . وأولى هذه المعتقدات أنهم خير أمة أخرجت للناس ، وأن ما لديهم من معرفة وميراث يكفيهم ، وليسوا بحاجة الى نظريات وعلوم من الخارج . وبهذا أهملوا أهم مبدأ للتطوير والتغيير ، ألا وهو مبدأ النقد والنقد الذاتي .
ان مبدأ النقد والنقد الذاتي بصدق هو المبدأ الذي على أساسة بنت الشعوب الراقية مجتمعاتها ، وذلك بإخضاع موروثاتها ونظمها الفكرية والتنظيمية للتحليل والنقد ، فقامت ثورات الاصلاح التي شملت الكنيسة وسلطة البابا وأنظمة الحكم المتحالفة معها .
لقد أعلن نيتشه موت الله في الغرب ، فبعد أن قابل ناسكا هرما يهبط من الجبل وأخذ يحدثه عن الله ثم انزوى، فقال نيتشه على لسان زرادشت " هل يمكن أن يكون ما قاله الناسك حقا ؟ يبدو أن هذا الناسك المسن لم يسمع بعد أن الله قد مات " ، ولكن الله قد مات وماتت جميع الآلهه.
وفعلا لقد ماتت الآلهة في الغرب بعد أن أذاقوا أجيالا من الناس أشنع أنواع العذاب من أجل إرضاء الآلهة ، لقد ماتت الآلهة تاركة في الذاكرة التاريخية مآسي لونها أحمر قاني من كثرة ما أسالت من دماء البشر ، وفوق هذا لم تعر انتباها لمعاناة الجموع الغفيرة من الظلم الاجتماعي والكنسي بالإضافة الى اضطهاد وحرق العلماء . وتركت في الذاكرة محاكم التفتيش التي عملت على إطفاء كل شمعة حاولت أن تنير الطريق .
والآن يتغنى الشرق بروحانيته ويحاول الاسلام السياسي بعث القديم بشكل جديد ، بعد أن كان له دور مشبوه في عزل هذه المنطقة وشعوبها عن الركب الحضاري أكثر من 400 عام امتدت حين سيطر الاستعمار التركي والخلافة العثمانية على المنطقة العربية طوال قرون ، وما أن تخلص العرب من الاستعمار التركي الاقطاعي الديني حتى ابتليت بالاستعمار الغربي ، وما تبعها من الديكتاتوريات السيئة السمعة التي سادتها فترة من التحالف الغير مقدس ضد الشعوب بين سلاطين الأرض وسلاطين السماء .
ولكن من الملاحظ أن من يدعو الى العودة الى القديم ، هذه الأيام هم الناس الهرمون ، وإذا وجدت شابا فهو إما لم يصحو بعد أو مستفيد ، وما هي إلا صحوة الموت لهذا النزوع في الشرق . إنه آخر زمن يعيشه الشرق وهو في النزع الأخير .
نقول في النزع الأخير ، لأن شعوب الشرق وخاصة الشعوب العربية عاشت السنين الطوال تتغنى بأمجاد الأولين ، فابتليت بأنظمة حكم ديكتاتورية ، وعزلتها عن المجرى التطوري التاريخي ، فغرقت في الدرك الأسفل من السلم الحضاري علميا واجتماعيا وفكريا . والآن أصابتها نوع من العاصفة فلجأت الى أقرب مرفأ ، وهو الدين ، والوصايا الموروثة التي ارتدت صفة القداسة ، وذلك لأنه ليس في أدبياتها ، وفي وعيها غيره . فمنذ انتهاء الحرب الثانية وهي غارقة في الوعود الأخروية ، ولا زالت ، وشعوب الشرق تخوض مرحلة من اكتشاف الذات ، اكتشاف مكامن الضعف والقوة , ولكنها تعيش حالة الصأصأة ، ولم تتفتح عيونها بعد ، وهي بحاجة الى تجربة مع الإسلام السياسي ووعوده التي لم ولن يستطيع ان يحل بها معضلات شعوب الشرق المزمنة ، ويشبع البطون ، ويقنع العقول . فهي تخوض الآن مرحلة من الحراك الاجتماعي السياسي الذي وجهته التحرر من كافة أشكال ظلم الانسان لأخيه الانسان .
ولكن الصحوة في الشرق قد ارتدت الشكل الديني ، حينما قفزت أحزاب الاسلام السياسي ، واستغلت المرحلة الثورية ، لما لها من تنظيم حزبي ، وحرفت مسارها معتمدة على مساوئ الديكتاتوريات السابقة وجهل الجموع الغفيرة ، قفزت لتعلن أنها صحوة دينية ، وعممت الوعود بالإصلاح ناشرة الوعود الدينية ، وأن التُقاة والأئمة والمشايخ هم أداة التغيير والإصلاح ، فعَلتْ الدعوات الى بناء مجتمع الخلافة الرشيدة ، والفلاح البسيط لا يعرف إلا القشور عن نظم الخلافة التي سادت في زمن ما ، ولم يعرف أن الخلافة على طول زمانها مليئة بالصراع العائلي والمذهبي على السلطة ، فمات أغلب الخلفاء قتلا أو طعنا أو تقطيعا بالسيوف أو بالسم .
إن الدعوة للخلافة في هذا الزمن ليس تجاهلا للزمن والازدحام السكاني الهائل ، بل انكارا للتطور الاقتصادي والاجتماعي والفكري السائد في هذا الزمن .
ان الدعوة للخلافة هي السير بالمقلوب ، أي الرأس لأسفل ، والأقدام لأعلى ، وفي حالة اللبس العربي ، فهذا يعني انكشاف العورة والفضيحة . إنها كشف لعورة العرب والمسلمين ساكني هذه المنطقة الجغرافية من العالم . انها عنوان الافلاس في استيعاب متطلبات الشعوب الاقتصادية وطموحاتها نحو الحرية والديمقراطية ، وهذه المتطلبات تجعل من الدعوة للخلافة وسيلة لخداع الجماهير الغفيرة وبسطاء الناس . فمن هو الخليفة ؟ إنه ملك أو سلطان ، أو والي يحكم بطريقة العصور الوسطى .
ان طموحات الجماهير في هذا الزمن تتمحور حول الحصول على الحرية من كل ظلم ، والوصول الى مدنية المجتمع وديمقراطية الاختيار وتحديد زمان الحكم والرجل المناسب في المكان المناسب وتكافؤ الفرص بين أفراد الشعب بغض النظر عن الاختلاف في الدين أو اللون أو الجنس . فهل تستطيع أحزاب الاسلام السياسي تحقيق هذا وتحقيق دولة مدنية بكل معنى الكلمة ؟
ان المدنية نشأت وتطورت تاريخيا وتجاوزت نظم الحكم الملكية والدينية والوراثية , انها تشكل وتنظم الشعب على أساس جديد ، إنها تبني مجتمع الانسان المنظم المتطور ، المتناسق في أجزاءه ليكوِنْ هذا الكل الاجتماعي والاقتصادي والفكري المتكامل .
ان العرب ومن خلال غرقهم في النظرة الدينية ، لم ينظروا الى التاريخ الاقتصادي والاجتماعي والفكري والسياسي نظرة تطورية ، وأنه قد سار من البسيط الى المعقد ، ومن المتوحش والبربري الى الانسانية ، ومن المختلط والمشوه والخشن الى الناعم .
لا ، أنهم يقسمون التاريخ الى قسمين ولا يعنيهم غير هذا في كل أدبياتهم ونظرتهم الى التاريخ ، وهما :
1- الجاهلية المعتمة المليئة بالكفر والأصنام .
2- الاسلام المنير المليء بالإيمان .
وبهذا يكون التاريخ هو مرحلتين : كفر وإيمان وصراع بينهما .
وهذه النظرة ليست بخاطئة في مبتدئها وخبرها ، مسبباتها ، ونتائجها . وهي نظرة ضيقة يتم فيها تجاهل التاريخ الحضاري الانساني كمجموع . هذا من جهة ، ومن الجهة الأُخرى يتم تزييف السمات الأساسية في المجتمع , فتسمية مجتمع ما قبل الدعوة المحمدية بالجاهلى ، تسمية ليست في محلها ، فهي تجاهل لكل المقدمات والمقومات الاقتصادية والاجتماعية والفكرية التي كانت موجودة فعلا في المجتمع ، ولولاها لما نجحت تلك الدعوة وانتشرت .
فالمتتبع لمكونات دعوة النبي التوحيدية ، يكاد يجزم أنها لم تأت بجديد ، بل قامت بجمع ما هو متناسق مع فكرة التوحيد في كل واحد ، مما هو موجود فعلا ، من أقوال الحنفاء السابقين في التوحيد والحج والطواف والقرابين والعلاقات الاقتصادية والإجتماعية والتنظيمية .
إن تعميم هذه النظرة ، هذه التقسيمة للتاريخ على التاريخ الانساني ككل ، تجعل التاريخ وكأنه صراع بين الكفر والإيمان ، متجاهلا بذلك العوامل البيئية والاقتصادية والطبقية والعظماء , والازدحام السكاني وتطور العلوم ، والحاجات الاجتماعية , كل هذه العوامل أثرت بشكل أو بآخر في دفع عجلة التاريخ الى الأمام ، وما الأفكار الدينية والأخلاقية والسياسية ، إلا نتيجة ثانوية لهذا التطور في التاريخ .
ان العربي عاش في مجتمع صحراوي ، وسيطرت الصحراء على تفكيره لمدة طويلة ، وتأثره بالحضارة يسير ببطء شديد ، وذلك لسيطرة أنظمة حكم دينية عليه لقرون عديدة ، وانشغلت بالصراع على السلطة ضد بعضها البعض . فهو لم يساهم في التطور الانساني إلا بالنزر اليسير ، والتي كانت ليس من نباهته ، بل من خلف ظهره ، أي من نباهة الآخرين . وعلى الرغم من اعترافه بأنه الآن يقبع في الدرك الأسفل من السلم الحضاري ، إلا أنه لا زال في أدبياته يتمسك بهذا الوضع الشاذ الذي يعيشه ،وهذه التقسيمة الخاطئة للتاريخ ، وتصل به الخيلاء والخداع لنفسه الى أقصى الحدود حين يعتبر المجتمعات المنظمة والمتطورة في أوروبا بأنها مجتمعات جاهليه .
وفي رأيه لكي يتطور هذا المجتمع الجاهلي – من وجهة نظر المسلم – يجب نشر الأصولية الدينية وإقامة مجتمع الخلافة ، حتى يقضي على جاهلية هذا المجتمع الأوروبي .
إن هذا خداع ليس للآخر ورفض له , بل خداع للنفس بأنه هو الذي يملك أُسس الحضارة التي تعتمد على المسلمات الدينية ، ونسي أن الأفكار الدينية هي نتيجة دعوات اصلاحية اجتماعية ظهرت في زمن معين ، وليس سببا للتطور .
ان رفض شكل النظام السياسي للخلافة ، لا يعني رفض الصلاة والفروض التي يمارسها الشخص دينيا ، فهذا لا يعيق البناء والتجديد ، بل رفض الشكل القائم على الحكم الفردي ، الذي يلغي التعددية الحزبية ، والحرية الانتخابية ، وتحديد فترة الحكم دستوريا .
فتطور الآله والصناعة يحتم على الناس علاقات اقتصادية مقابلة ، كما وتظهر على السطح البني الفوقية من دولة وقوانين وأدب وفن وأخلاق وأفكار وأديان .
فالى متى يخدع العرب أنفسهم ، متى يكونون فلاسفة واقعيين ويعترفون بأن الفلسفة هي عدم تزييف الواقع للناس وحب الحكمة ، أي حب معرفة الحقيقة ، لا حب تزييف الحقيقة .
ان ابطاء العرب والذين لا يمكن فصلهم عن الاسلام ، في استيعاب الحضارة يعود لسببين :
** ان موروثات العرب الفكرية والاجتماعية ، ساكني هذه المنطقة الجغرافية من المحيط الى الخليج ، هي موروثات صحراوية ذات رمال متحركة تطمس كل علائم جديدة برمالها وعواصفها الهوجاء ، بمعنى أن الفكر والثقافة الصحراوية لا تميل الى التجديد الفعلي ، بل الشكلي فقط ، وغير معنية بتطوير نفسها . لهذا نراها دوما تقف كقشرة صلبة أمام كل جديد ثقافي أو علمي .
** أو أن العرب من فصيلة مختلفة عن البشر ، أي أن أجسادهم تحتوي جينات مختلفة عن ساكني هذه الكرة من الناس ، فقد يكونوا من أصول بيولوجية يعوزها الجهاز العصبي القادر على الربط بين الأشياء ومسبباتها ونتائجها . لهذا لا يعترفون بالمعيار التطبيقي ، التجريبي للمنظومة الفكرية الموروثة ، وبالتالي ليس لديهم مقياسا علميا للحقيقة .
ولما كان تأثرهم بالمدنية والحضارة والعلم ضعيفا ، لهذا نراهم يميلون الى الماضي أكثر من ميلهم للتقدم . وفوق هذا كله نرى العربي ذو المرجعية الدينية يصب جام غضبه على الحاضر لأنه ترك اسلوب حياة الماضي . فنراه كلما زادت العلوم تقدما وتطورا ، يزداد ردة وأصولية ورجعية الى الماضي .
فلكي يتجاوز الجيل العربي المعاصر هذه المعضلة يجب تشخيص المشكلة الكامنة خلف هذا الموقف . والبدء بشكل شخصي ، ذاتي ، والاتجاه نحو التغيير ، وتفحص القشرة الثقافية الموروثة والتي تناغمت مع المقدس ، ووقفت موقف اللامبالاة ، لا ، بل والمعاداة لمنجزات العصر ومتطلباته .
أما الفلتات البسيطة من العرب الذين برعوا في احدى مجالات العلوم ، فذلك لأنهم تأقلموا بشكل شبه كامل مع الحضارة وعاشوها مجتمعا وفكرا .
وبعد كل هذا لا بد من السؤال : كيف نتخلص من حالة خداع النفس هذه ؟ والجواب : اذا شخصنا المشكلة بشكل سليم ، واعترفنا بوجودها في ثقافتنا ، عرفنا كيف نتخلص منها بإزالة المسببات . ولن يتم هذا إلا بالاعتراف بأننا نعيش حالة من الذيلية الحضارية .
** وبالوعي ،وفهم كيفية تراكم الميراث الفكري في وعي الأجيال وكيف أصبح من المسلمات الغير قابلة للتغيير وكيف ارتدت صفة القداسة .
** نستطيع أن نتخلص من حالة خداع النفس , بالعلم والفلسفة وفهم التاريخ الإنساني وتطوره على مر العصور وكيف وصل الإنسان الى هذه الدرجة من الحضارة والرقي .
** نستطيع أن نتخلص من حالة خداع النفس بإخضاع كل شيء للمعقولية ، والتمسك بأن لكل شيء سبب معقول المقترن بالتواتر السببي .
** نستطيع أن نتحرر من حالة خداع النفس بزرع الجرأة وتقوية الرغبة في التحرر من الجُدر الصلبة التي بنتها في وعينا جملة من المسلمات الممتزجة بالأساطير .
** نستطيع التحرر من حالة خداع النفس ، بالاعتراف بأن معيار الحقيقة هو مطابقة الواقع ، هو الاختبار ، هو التجربة ، والإخلاص لها .
** تدريس العلوم للجيل على أصولها دون تزييف .
بدون هذا لن نستطيع أن نخرج من الحالة الصحراوية التي نعيشها .

الثلاثاء، 10 سبتمبر 2013

حينما أفكر وحيدا


 

حينما أُفكر وحيدا

 

        1- من أنا

 

أنا نبض وردة

 

أنا الما.........وراء

 

الامتداد

 

الأبعاد

 

مع كل اثنين يتناجيان

 

العصفور والشقشقة

 

مع كل واحد يفرح

 

يصرخ

 

مع البعد والاقتراب

 

مع السؤال

 

والجواب

 

أنا الليل

 

الفجر

 

الصحراء

 

البحر

 

الحب

 

الشاعر

 

إلا الظلم

 

لا أكون

 

لا أكون معه

 

-----------------

 

2- الحياة

 

 

حشرجة الموت

 

صرخة الميلاد

 

قالت هي

 

لست هذا

 

ولا ذاك

 

ولا......

 

أنا الحياة

 

--------------------------------

 

3- زواج الأربعة

 

 

أربعُ إنسانة

 

أنا..............؟

 

حشرجة صوت

 

لا تقوى على نطق

 

أليس لي نهدان؟

 

لي لسان

 

وجسد

 

وأنامل

 

فهل أحمل السيف

 

وأقاتل؟

 

فلماذا؟

 

ربع إنسانة

 

أنا.............؟

------------------------

 

                                        4- صدفة

 

على غير موعد

 

التقينا

 

أسرت لي في دلال

 

أزبد اللقاء

 

وطال المقال

 

وذاب الحديث

 

وسط آهات

 

وسط بسمات

 

الشفاة

 

وصحا الوجد

 

 

--------------------------

 

5- ترهات

 

 

قال نيتشة

 

أموت......أموت

 

وأعود........أعود                                                                            

 

لها

 

كما هي ببسمتها

 

بصرختها

 

وجرحها

 

كما هي

 

أعود لها

 

بكامل وطأتها

 

الحياة الأبدية


--------------------------------

 

6- فلسفة

قالها نيتشة

لقد مات....

وقال سارتر

أنا أصفعه......

وقلت

أنا أعقله

ما دام لي

عقل

فهو فيّ

ومعي

ما دام

لي عقل

 

 

------------------------------

الأربعاء، 4 سبتمبر 2013

بومبي مدينة الحضارة والفن والعمارة


  في عمق البحر المتوسط تمتد اٍيطاليا على شكل حذاء  سايس الخيل لتجعل من يابسها شطآنا تمتد لمسافات طويلة .

  أينما توجد المياه يوجد الاستقرار والهدوء والحضارة والعمران البشري . على شواطىء اٍيطاليا نشأت مدنا عديدة لا زالت مبانيها وعمرانها البشري شاهدا حتى اليوم على تطورها على مر التاريخ .وأيضا هناك مدنا على درجة عالية من الحضارة والتنظيم ، اٍلا أن كوارث الطبيعة لم تمنحها الفرصة في الحياة والاستمرار حتى يومنا هذا .

 ومدينة " بومبي " على شاطىء المتوسط الواقعة بالقرب من مدينة  " نيبليس " في ايطاليا لها باع طويل ضارب في التاريخ منذ 2000 عام ، والتي كانت عامرة بكل معنى الكلمة أيام حكم نيرون .

 

كانت بومبي مدينة كبيرة وصل عدد سكانها الى 200 ألف نسمة ، لها  حضارة مزدهرة وقطع نقدية ، وكانت تطل على جبل بركاني خامد ،و كان معظم السكان من الأثرياء ، وظهر ذلك على معالم المدينة ، فكانت شوارعها مرصوفة بالحجارة  وبها حمامات عامة وشبكات للمياه تصل إلى البيوت ، كما كان بها ميناء بحري متطور وكان بها مسارح وأسواق ، وآثارهم أظهرت تطور بالفنون من خلال النقوش ورسومات الجدران.

 بومبي" الآن هي أحد المزارات السياحية ، بعد أن ظلت في طي النسيان حتى القرن الثامن عشر عندما اكتشفت آثار "بومبي" وعثر على مناطق بها جثث متحجرة ، وتم اكتشافها في إيطاليا عام 74 بعد الميلاد  ، وكانت أحد المدن الحضارية القديمة قبل أن تطمر بالكامل هي ومدينة أخرى بالقرب منها تسمي "هيركولانيوم" تحت غبار بركان "فسيوفيوس"  حيث  ثار هذا البركان بصورة مفاجأة عام 74م.

 ومن الجدير بالذكر أن هذا البركان انفجر مرة أخرى عام 1944 م ، حصد خلاله 19 ألف نسمة ، ويقول الباحثون ، أن انفجار البركان عام 74 م كان أضعاف الانفجار الثاني واستمر حوالي 19 ساعة عندما طمرت المدينة بكاملها.

وظلت المدينة مدفونة لمدة 1700 عام تحت كمية كبيرة من الرماد ، وظلت كذلك قروناً طويلة حتى عثر عليها أحد المهندسين خلال عمله في حفر قناة بالمنطقة ، واكتشف المدينة بعد أن غطتها البراكين وكل شئ بقي على حالته .

وأثناء التنقيب تم الكشف عن الجثث على سطح الأرض ، وكانت المفاجئة أنهم ظهروا على نفس هيئاتهم وأشكالهم ، بعد أن حلّ الغبار البركاني محل الخلايا الحية الرطبة لتظهر على شكل جثث غبارية متصلبة متخذة شكل الجسم الذي تغلفه على نفس الهيئة التي كانت عليها لحظة السقوط المفاجيء للغبار البركاني الحار .

ويري أحد خبراء الآثار ويدعى "باولوا بيثرون" وعالم البراكين "جو سيفي" أن أهل القرية احيطوا بموجة حارة من الرماد الملتهب تصل درجة حرارتها إلى 500 سيليزية ، بصورة  سريعة جداً حيث غطت 7 أميال إلى الشاطئ ، وتظهر الجثث على هيئاتها وقد تحجرت الأجساد كما هي ، فظهر بعضها نائم وآخر جالس وآخرون يجلسون على شاطئ البحر وبكل الأوضاع بشحمهم ولحمهم.

عندما انفجر البركان ارتفع الرماد إلى 9 أميال فى السماء وخرج منه كمية كبيرة من الحمم ، ويقول العلماء أن كمية الطاقة الناجمة عن انفجار البركان يفوق أكبر قنبلة نووية ثم تساقط الرماد عليهم كالمطر  ودفنهم تحت 75 قدم .

 بعد عمل العديد من الأبحاث على 80 جثة لأهل القرية وجد العلماء أنه لا توجد جثة واحدة يظهر عليها أي علامة للتأهب لحماية نفسها أو حتى الفرار ، ولم يبد أحدهم أي ردة فعل ولو بسيطة ، والأرجح أنهم ماتوا بسرعة شديدة متأثرين بالهواء الكبريتي السام ، دون أن تكون هناك  أية فرصة للتصرف ، وكل هذا حدث فى أقل من جزء من الثانية.

 

ويذكر أن "بومبي" لفتت نظر العديد من الشخصيات على مدار التاريخ وخاصة من محبي الفنون ، ولقد  زارها الملك فرانسيس الأول من نابولي لحضور معرض بومبي في المتحف الوطني مع زوجته وابنته عام 1819 ، أبدى تعجبه  بما رآه من رسومات واعتبرها فنون تتميز بالجرأة الغير متعارف عليها ..

 لقد كان المجتمع الروماني مجتمعا طبقيا يسيطر فيه الأسياد ، فهم يملكون كل شيء من أراض وعقارات ومنابع مياه ، وبالمقابل طبقة العبيد التي لا تملك شيئا ومجبرة للعمل لصالح الأسياد ، وكان لكل طبقة أخلاقها وسلوكها الخاص.في الحياة .

وكان مترفي مدينة بومبي يتمتعون بمشاهدة المصارعة بين البشر بعضهم ببعض ، أو بين البشر  والحيوانات المفترسة التي تنتهي بموت أحدهما ،وكانت هذه هي الطريقة المتبعة للتخلص من المجرمين ،أو المعارضين للحكومة .

  ولكن لماذا حدث هذا لمدينة بومبي ؟ 

 يقال أن أهالي بومبي كانوا يقدسون الجنس ويؤمنون بعلنية العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة ويرسمون الرسومات الاباحية على جدران منازلهم ، ولا يجدون حرجا في أن يرى أطفالهم هذه الرسومات .

 ولما كان هذا مخالفا للآداب العامة والوصايا  الدينية في ايامنا هذه ، فقد اعتبر البعض أن ما حدث لبومبي آنذاك عقابا الهيا ، وأن ثورة بركان فسيوفيوس الشديدة كانت عقابا لأهالي بومبي على هذه الأخلاقيات التي كانت منتشرة بين مترفيهم .

 وهنا لا بد من ذكر أنه ورد  في التوراة والأناجيل والقرآن - كتاريخ مكتوب – ذكرا لأقوام غابرة أُبيدت بريح صرصر عاتية  كعاد وثمود ، أو بقلب الأرض والمباني بجعل أعاليها أسافلها كقوم لوط . أو بالاغراق بالماء ،  كما جري لقوم نوح ، أو بحشرات تسقط غبارا محملا بالأمراض القاتلة ، كما حدث لأبرهة الأشرم الذي قدم من اليمن لهدم الكعبة على رأس جيش عرمرم محمولا على ظهور الأفيال .

 ان ما ذُكر هي أشكال التعذيب والاٍهلاك حسب ما ورد في الكتب الدينية , وهناك في القرآن أية تقول " وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا " ، أي ما كنا لنهلك قوما قبل أن نرسل لهم من يدعوهم الى سواء السبيل ، فاٍن عصوا أهلكناهم بطريقتنا ، اما بريح صرصر ، أو بقلب الأرض أو بالغرق .

 والسؤال : من كان الرسول الى مدينة بومبي ، أو فلنقل ، لإيطاليا  قبل أكثر من  ألفين من السنين ؟ فالديانة اليهودية كانت محصورة في بني اسرائيل ، والديانة المسيحية لم تصل اوروبا بعد ، وكانت السيطرة الدينية لقديسة الاهة فيستا .

 فاٍذا لم يبعث فيهم رسول ، فهل يجوز معاقبتهم ؟ .

 

 

 ومن الجدير بالذكر أن حادثة بومبي حدثت قبل أكثر من  600 عام قبل  البعثة المحمدية ، ولم يأتِ ذكرها في القرآن ، وأن التركيز في القرآن على قصص الأقوام الغابرة بين شرق  البحر المتوسط ومصر وحتى اليمن ، ولم يكن هناك أي معرفة بأقوام تسكن ايطاليا أو أوروبا .

 و لم تذكر الكتب المقدسة ولا التاريخ  المكتوب أن أناسا أبيدو ببركان يقذف بحممه  المنصهره ، أو بغباره  البركاني الحار ، أو بسمومه  الكبريتية البركانية التي تقتل الناس بسرعة ولا تترك لهم فرصة للمقاومة ، أو اتقاء الخطر سواء بالصلاة والدعاء أو بغيره من وسائل مادية .لهذا نصل الى استنتاج هام ، وهو أن هلاك وطمر مدينة بومبي وما جاورها من قرى ومدن قبل   أكثر من 2000 من السنين لم يكن بغضب الهي ، بل كان حادثا طبيعيا ممكن أن يحدث لأية مدينة تسكن بجانب بركان خامد يثور من آن لآخر .

 ومن الممكن أن يكون البركان معروفا ويعطي علامات على ثورانه ، الا أن الساكنين بجواره لم يكترثوا ولم يبتعدوا عن الخطر ، أو يكون دائما في حالة ثوران بسيط غير خطر ولا يستدعي اٍخلاء المنطقة ، ولكن فجأة يثور بطريقة مضاعفة مئات المرات ، فيدمر ما حوله من مدن وقرى ،وهذا ما حدث لبومبي .

 وفي أيامنا هذه وقع زلزال في وسط المحيط وسبب اعصار تسونامي في أندونيسيا  سنة 2004 م  وقتل الكثير من البشر ، ودمر مدنا وقرى لا حصر لها . فهل كان هذا عقابا الهيا  كما ادعى الكثير من الناطقين باسم الدين وأشباههم ؟ وهل كان تسونامي عقابا لمؤمنين ، أم لعصاة وكفرة ؟ فأندونيسيا حكومة وشعبا بلدا مسلما ، ولم يشتهروا بالفسق أو الضلال ، ويحق عليهم القول بهذه الطريقة أو تلك .

 ومن المعروف أن قشرة الأرض لا زالت قلقة ، وتحدث فيها الزلازل والهزات الأرضية من آن لآخر ، وكذلك تحدث الأعاصير المدمرة في مناطق متعددة من العالم ، ويقع هذا في بلاد مسلمة أو مؤمنة مثل ايران ، وبلاد أخرى لها معتقدات أخلاقية وغير مؤمنة باله واحد ،مثل الصين  والهند ، ويموت الكثير من البشر كل عام بسبب الكوارث الطبيعية مؤمنين وغير مؤمنين . فهل هذا عقاب وغضب رباني ؟ .

   من هنا لا يجب أن نفسر ما حدث لبومبي باللجوء للتحليلات والتفكير الغير علمي والغير واقعي ، والتي تكرس المنحى الغير علمي في عدم  نسب الأمور الى مسبباتها الواقعية .

  ان المتفحص لمدينة بومبي يرى أنها من المدن المتحضرة في مبانيها وطرقها وتنظيمها مع أنها غارقة في التاريخ ، وهذا التنظيم لم تعرفه العديد من بلدان الشرق ، وهذا يظهر من خلال صور المباني التي كانت مطمورة بالغبار البركاني .

 كما وتظهر صور أخرى حجم الكارثة المفاجئة الني ألمت بأهل بومبي والتي قتلتهم بصورة جماعية أطفالا وكبارا  أسيادا وعبيدا .

.
  

                                                                    قرب بومبي من  البركان

 http://images.alwatanvoice.com/news/images/3909766082.jpg

http://images.alwatanvoice.com/news/images/3909766084.jpg

http://images.alwatanvoice.com/news/images/3909766086.jpg

http://images.alwatanvoice.com/news/images/3909766091.jpg

http://images.alwatanvoice.com/news/images/3909766096.jpg

http://images.alwatanvoice.com/news/images/3909766098.jpg

http://images.alwatanvoice.com/news/images/3909766100.jpg

http://images.alwatanvoice.com/news/images/3909766102.jpg

العرب ونظرية التطور


   إن نظرية النشوء والارتقاء لداروين لم تُوضع كفرضية مُسبقة تحتوي على أسانيد مسبقة سلفية تم تجميعها من هنا وهناك , بل جاءت من الشواهد التي رآها داروين في رحلته الاستكشافية الهادفة ومن خلال المراقبة الدقيقة لسلوك الحيوانات ، فقد لاحظ التشابه بينها وطريقتها في الحصول على الغذاء , ومن خلال مشاهداته الحية في الغابات , وما تم اكتشافه في الحفريات المطمورة على مر السنين .

   ان داروين في كتابه "أصل الأنواع" سنة 1859م ، والذي هو خلاصة لنتائج ما يزيد عن  27 سنة من الأبحاث والتأملات والترحال حول العالم، يعني أن الرجل بعد جهد جهيد وصل الى النموذج التطوري للأنواع وليس عن طريق العبث ، ولم يكن من هدف له الا العلم ، ومن أجل العلم وإظهار الحقيقة العلمية . لقد ساهم كتابه "أصل الأنواع" في تحرر العلوم البيولوجية الحديثة من التصور الميتافيزيقي اللاهوتي الثباتي.
كان داروين أول من طبق الاستقراء والاستنباط لدراسة التطور، وقد حدد لنفسه هدفين اثنين : أثبات عملية التطور واكتشاف الآلية التى تتم بها عملية التطور
.

     إن الربط بين المشاهدات في الواقع لأنواع عديدة من الحيوانات هي التي أوحت لداروين بالقوانين التي تحكم التطور العضوي للكائنات الحية من أصغر كائن عضوي أُحادي الخلية الى أضخم ديناصور, مرورا بكل أصناف الحيوانات على تنوعها من كائنات بحرية أو برمائية أو ثدييات وصولا الى الإنسان .

   إن الهدف من هذا الطرح هو وضع الإنسان أمام مسئولية فعلية تتطلب منه موقفا صارما لا هوادة فيه من الحقيقة ، من المعطيات العلمية ، وأن تكون دافعا له لكي يملك الجرأة والشجاعة لكي يقول لا لغير العلم , لا للامعقول , لا للتراث الغير واقعي , والمختلط بأساطير الأقوام الغابرة .

   فمثلا إذا طُرحت أمامه حقيقة علمية  تقول:  أن المعادن تتمدد بالحرارة , وقد ثبت هذا بالتجربة العملية والمشاهدات المتكررة , فلا يجب أن يعزل معدنا بعينه ويجعل له استثناء – الذهب مثلا – فبينما يقول العلم ، المعادن , يقصد جميع المعادن ، فكل المعادن تخضع لهذا القانون .

     وحينما يقول العلم ، أن الكائنات الحية خضعت لطريق تطوري دام ملايين السنين ، فلا يجب أن يستثني الثعبان أو القرد أو الإنسان .فيجب أن نعترف أن جميع الحيوانات خضعت للتطور دون استثناء أي منها  .

إننا نرى أن البعض ولأسباب من الموروث الفكري يقف موقفا متميعا وبطريقة ساخرة متسائلا : كيف تكون مارلين مونرو أو صوفيا لورين أو نانسي عجرم في شراكة فعلية  بيولوجيا مع الحيوانات اللبونة أو القردة العليا .

وعليه نجيب أننا نجد تشابها بيولوجيا لدرجة كبيرة بين الإنسان والقردة العليا , وليس هذا وحسب ، بل تشابها في الشكل وعلامات الوجه بين فصيلة من القرود وفئات بشرية عاشت في المرحلة الوحشية المشاعية ، من حيث بروزات الوجه وشكل الجمجمة , إلا أنه في الواقع هذا إنسان وهذا حيوان بكل معنى الكلمة .

  فالفرق الذي يحسم الموضوع ويحدد لنا درجة اختلاف الإنسان عن غيره من العضويات البيولوجية هو درجة تطور الدماغ , والمقدرة على النطق .

    لهذا فالموقف من المعطيات العلمية لا يجب أن يختلط مع الخرافة , فالأبيض ، أبيض والأسود , أسود . إن العلم لا يقبل الميوعة , ولا يقبل التردد , إنه يتطلب التحزب ووضوح الموقف والانحياز للحقيقة والبحث عنها والتمسك بها خارج أية اعتبارات أخرى .

     فحينما نتواجه بالسؤال : هل هناك تغير وتطور في الطبيعة والعضويات ؟ فإن الجواب : نعم , ويجب أن يكون نعم دائما , ولا يجب أن يستثني أي كائن عضوي على سطح الأرض .

    هناك نظرتان تطرحان لنا تصوران يفسران كيفية ظهور الكائنات العضوية على سطح الأرض . الأولى تبرر ظهور النباتات والحيوانات والإنسان كل بشكله ونوعه دون تغير أو تطور , نتيجة لتدخل قوى غيبية لها قدرات خارقة .

    والثانية تنظر الى الحياة بكل تنوعاتها وأشكالها بوصفها نتاج لعملية تطورية متسلسلة دامت ملايين السنين الى أن اتخذت فيها العضويات والإنسان هذا الشكل الذي نراه عليها الآن .

    الأولى , تبدأ من أمر غيبي تم فيه  إيجاد ، تكوين ، " خلق " , أي تشكيل أجساد ، أشكال , كل بشكله ومُسماه ، ثم إيداع الحياة في هذه الأجساد , والتي تم تشكيلها بشكل منفصل بعضها عن البعض , كل على حدة , وهذه الكائنات العضوية لا تتطور ولا تتغير , فهي بنفس التركيبة والتشكيلة , ونفس الحجم منذ الإيداع الأول وحتى الآن . أي أن الأسد والقط والتمساح والزرافة والحصان والإنسان وجدت بهذا الشكل منذ الأمر الأول بوجودها ولم تتغير ولم تتطور . أما القرد فلم يوجد ضمن العملية الأولى للخلق , إنه إنسان " مغضوب عليه " , أي إنسان ، " مُرجع " ، " ممسوخ " . فلم تكن هناك قرود حسب النظرة الدينية , بل وُجد القرد نتيجة لغضبة إلهية على الإنسان الغير مطيع في زمن ما  , فأرجعه الى درجة أقل , وهو القرد . فقد ورد في سورة البقرة : " ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم فى السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين " (البقرة :65) ، ولكن هذا الطرح لم يحدد الى أي نوع من القردة تم الارجاع ، فهناك مئات الأجناس من القردة المختلفة في الحجم والشكل ودرجة الانتصاب في المشي .

   وهذه النظرة الى العضويات لا تفسر لنا التشابه الفائق الدرجة في التركيبات الداخلية والشكلية بين الحيوانات البحرية , ولا التشابه بين الحيوانات البرية في التركيب ولا في الشكل . ولا تبين لنا أسباب الاختلاف في الأحجام ولا الألوان , ولا تفسر لنا لماذا هناك حيوانات بلا أرجل ولا عيون , ولا توضح لنا لماذا انقرضت حيوانات , وبقيت أخرى , ولا لماذا تظهر حيوانات وطيور لم تكن موجودة من قبل . فقد وجدت حيوانات بدون عيون في أعماق البحار وفي الكهوف المظلمة وتكيفت في حياتها مع الظلام .

   كما أنها لا تستطيع ان تجيب على السؤال : لماذا توجد في جزيرة مدغشقر حيوانات تختلف عن الحيوانات الأفريقية والآسيوية ؟ وهل جرى خلق حيوانات مدغشقر بطريقة تختلف عن حيوانات القارات الأخرى ؟

     إن النظرة الدينية لتبرير سبب وجود الكائنات العضوية هي " غائية " , أي لكي تجعل إمكانية أن يعيش الإنسان " وهو هدف الخلق " أن يعيش على الأرض . وحتى الإنسان " خلق " لأسباب غائية , وهي العبادة والاختبار ,فقد ورد في القرآن " (وما خَلَقتُ الجنَّ والإنس إلاَّ ليعبدونِ)  , وفي الحديث القدسي "خَـلَـقتُ الخلق لكي أُعرف" ، ومن ثم سيواجه هذا الإنسان  الموت , ثم البعث من جديد . فإذا نجح في الاختبار فهناك الحياة الأبدية , في جنة عدن , حياة النعيم بعد الموت , أما اذا رسب , فسيلقى العقاب الشديد وسيزج به في أُتون نار حامية ,تمور من شدتها , حيث تأكله النار ويعاد خلقه من جديد لتأكله مرة أُخرى وهكذا دواليك .

 

    أما نظرية النشوء والارتقاء لداروين فتنطلق من أن :

 1-  كل الكائنات الحية الموجودة لم تكن كذلك , وإنما تطورت للأفضل  وتشكلت عبر ملايين السنين , عبر طريق طويل ارتقت فيه من الأدنى الى الأرقى , وكان هذا محكوم بقانون الصراع من أجل البقاء ، والبقاء للأفضل ، والانتخاب الطبيعي .

2- عبر هذا الطريق الطويل للتطور تخلصت أو أهملت  هذه الحيوانات بما فيها الإنسان كل عضو لا يجري استعماله  , وتعززت لديها الأعضاء الأكثر أهمية واللازمة في صراعها من أجل البقاء وفي تكيفها مع ظروف حياتها .

3- عبر هذا الطريق الطويل للتطور الذي مرت به هذه العضويات وعبر التزاوج , كانت تحدث طفرات جينية تحمل خواص جديدة مما أغنى العملية التطورية بظهور فصائل وحيوانات جديدة لم تكن موجودة من قبل . وأوجد التمايز بين الحيوانات في الشكل والحجم والفعالية , والقدرة على التكيف, وهذا ما يفسر التفرعات المتعددة في الشجرة البيولوجية ,  الحلقات التطورية التي تربط بين الحيوانات من برمائيات بخياشيم ، وبين برمائيات تتنفس برئتين ، وبين زواحف بياضه ، وبين الثدييات المشيمية .

 4- عاشت  هذه الحيوانات في بيئات مختلفة البرودة والحرارة , وللمحافظة على بقائها , تطورت عندها أعضاء وتعززت لتتكيف مع ظروف حياتها حسب البيئة التي هي موجودة فيها . فظهرت حيوانات بيضاء وذات شعر كثيف في البيئة الثلجية , وسوداء ومخططة في الغابات الكثيفة , وصفراء في البيئة الصحراوية . وهذا ما أُطلق عليه ظاهرة العقلانية , أي تكيف العضويات مع بيئتها .

  

     *** موقف الغرب من نظرية التطور

    منذ ظهور نظرية دارون أحست أنظمة الحكم الملكية والطبقات الحاكمة في القرن التاسع عشر بالخطر، لكونها خالفت أرائهم التي أصرت على أن العبد الأسود خلق لكي يبقى عبدا يخدم سيده الأبيض، ولا يمكن تطويره بالحرية والتعليم، وبأن الفقير خلق لكي يبقى فقيرا، لكونه مولود بمورثات لا يمكن تغيرها، وبأن المستعمرات خلقت بأرضها وشعوبها لخدمة ملوك أوروبا. كما شاركهم هذا الإحساس ممثلي المؤسسة الدينية بوصفهم الممثلين للخالق ، وأن نظرتهم المستوحاة من سفر التكوين الى الأحياء أصبحت في خطر بظهور نظرة علمية منافسة بل وناسفة لتفسيراتهم عن الخلق الأول .

 كان الاسقف ولبرفورس في مقدمة من هاجموا نظرية التطور وصاحبها داروين ، اذ رأى أن قانون الانتخاب الطبيعي يتعارض مع كلمة الله ويناقض العلاقة بين الخليقة وخالقها ... وفي اجتماع للمجتمع البريطاني لتقدم العلم ، أعلن أنه يشعر بالغبطة لأنه لم ينحدر من القردة , فقال هكسلي في الرد عليه : لو خُيرت لآثرت أن أكون من سلالة قرد وضبع , على أن أكون ابن رجل من البشر يُسخر علمه وفصاحته للإساءة الى من أفنوا حياتهم في البحث عن الحقيقة ! .

    كان جان بول الثاني رائدا في مجال الاعتراف الديني بنظرية التطور الداروينية عندما اعترف أمام أكاديمية العلوم الخاصة بالفاتيكان سنة 1966م : " نظرية التطور أكثر من فرضية " , بل هي علوم دقيقة لا مفر للمؤمنين من الاعتراف بها , والانتقال من القراءة الحرفية لنصوصهم المؤسسة الى القراءات المجازية والرمزية والصوفية والتاريخية ..

  ونورد موقف  آخر هو موقف أُستاذ في جامعة باريس السابعة , صاحب كتاب " أمريكا بين التوراة وداروين " 2007 م , يقول دومينيك لوكور " كنا نحسب أن المسألة قد حُسمت , اذ مُني أصحاب " نظرية الخلق " بالهزيمة تلو الأخرى أمام المحاكم العادية ، وفي النهاية أمام المحكمة العليا في الولايات المتحدة الأمريكية , وهكذا , ففي باب أصل الإنسان ، لم يعد مفروضا على أساتذة البيولوجيا في المدارس العمومية تدريس نص " سفر التكوين " الى جانب نظرية التطور , لقد تم إلغاء آخر قانون ضد نظرية التطور  1987 م .

    وموقف ثالث : لقد حذر بروس البرتسن عميد كلية العلوم في الولايات المتحدة الذي حذر علنا : " يوجد أحد دعائم العلم مهملا بل مقصيا من دروس العلم " , نجد في موقف التلاميذ من التمرد بقدر ما نجد من خضوع . على الأساتذة أن يقنعوهم أنهم ليسوا في موقف خيار بين روايتين متنافستين ، التوراة رواية منذورة للإجابة على تساؤلات كل واحد منا حول هويته ومصيره , أما نظرية التطور ، فهي ليست حكاية , وإنما هي  قلب البيولوجيا المعاصرة التي تنتج كل يوم معارف وتطبيقات جديدة " .

 

   وموقف آخر له دلالة من نوع آخر ، نرى فيه كيف تطور الأمم نفسها ،  ففي مطلع السنوات 1980م اكتشفت الولايات المتحدة الأمريكية تخلفها التربوي عن اليابان , فشكلت لجنة تقص للحقائق لمراجعة المناهج وطرق التدريس وتكوين المدرسين لتصبح أكثر استجابة لحاجات الأمة الأمريكية . استهلت اللجنة ديباجة تقريرها للحكومة الفيدرالية بهذه الكلمات : " لو أن دولة معادية فرضت هذا البرنامج التعليمي العقيم على الشعب الأمريكي , لاعتبرنا ذلك سببا موجبا للحرب عليها . لكن ما العمل ، ونحن الذين فرضناه على أنفسنا ؟

   والسؤال هل لدى صناع القرار العرب الجرأة والنضج الكافي للوقوف اتجاه أنفسهم  مثل هذا الموقف المعبر عن النضج النفسي والفكري والشعور بالمسئولية اتجاه شعوبهم ؟ والبدء بتدريس العلوم الإنسانية والفلسفة والعلوم الطبيعية على أصولها في المدارس والجامعات في المنطقة العربية .

 

     ***  العرب ونظرية التطور :

    عرف العرب نظرية داروين من خلال الكتب التي تشرح هذه النظرية بطريقة مزاجية ، الا القليل منها ، وفي الأغلب كانت هذه الكتب يتم التقديم لها بآراء معارضة تشوه مضمون نظرية داروين  للقارئ العربي . فانتشر النقد لهذه النظرية أكثر من وضوح مضمونها العلمي .

 وقد تنبه لهذا الفهم إسماعيل مظهر فقام بترجمة كتاب " أصل الأنواع " سنة 1918م , وكان من أكبر المتحمسين لمذهب داروين  حتى مات سنة 1963م .وكان يكتب في صدر مجلته " العصور " : " حرر فكرك من كل التقاليد الموروثة , حتى لا تجد صعوبة في رفض رأي من الآراء , أو مذهب من المذاهب اطمأن اليه نفسك وسكن إليه عقلك , إذا انكشف لك من الحقائق ما يناقضه " .

 فهل سمع العرب نداء إسماعيل مظهر ؟

     لا , لم يسمعوا , غير نداء الجهل والتشويه , وبالجهل والتشويه يتصدى العرب لكل جديد , لكل حضاري , واذا لمسوا فوائدا من نتاج الحضارة تعاملوا معها بشكل فظ , ينم عن جهل وأحيانا غطرسة واستعلاء كاذب .

     ان معارضة العرب للداروينية يبدأ من حساسيتهم المفرطة  من أي أفكار أو نظريات أو علم يجري تفسيره على أنه يقترب من الموروث المقدس , سواء كان عُرف أو عادة أو طقوس دينية . ويرجع هذا الموقف الى كتاب شبلي شميل " شرح بخنر على داروين " , وهو الكتاب الذي روج للنظرية على قاعدة الإلحاد المستقى من فكر الطبيب والفيلسوف الألماني " بخنر " . وقد تلقت الأحزاب والمؤسسات الدينية هذا الفهم وروجت له ، فأصبح التشويه يسبق المعلومة أو النظرية , وأصبح الموقف من نظرية الانتخاب الطبيعي واضح في العقلية العربية ، ما دامت هي هكذا , فلا داعي لمعرفة ماذا تقول . وهذا الموقف المشوه عن الداروينية قد عزز منع تدريسها في المناهج الدراسية , أو المرور عليها بالاسم مضافا له النقد من وجهة نظر موروثاتنا المقدسة .

 حاولت أن أبحث في قوقل عن شرح لنظرية داروين , فكتبت " نظرية داروين " ، فظهر أمامي أحد عشر عنوانا عن نظرية داروين , وهي : 

حقيقة نظرية داروين     1-


 من أكثر النظريات التى انتشرت في الأوساط العلمية...

 نظرية التطور - ويكيبيديا، الموسوعة الحرة   -  2   


نظرية داروين ."أردي" تطعن بصحة 3 - الجزيرة.نت


- YouTube  سقطت نظرية داروين -- قناة الجزيرة - 4


-    ( نظرية التطور ) وحقيقة الخلق , سبحان الله .      شاهد انهيار نظرية  -5


 نظرية دارون    6 – نقد


       7  – أسباب تعارض نظرية داروين مع القرآن الكريم     

 8- نظرية داروين عن التطور خيال ساذج .

  9- نظرية داروين – أصل الإنسان قرد .

 10– نظرية داروين – من الجانب الديني

11 -  نظرية داروين للتطور تتعارض مع الكشوفات العلمية الحديثة .

ماذا نستنتج من هذا ؟  نستنتج أن أي قارئ عربي  يريد الاطلاع على النظرية سيحدث عنده لجاجة وفقدان اتجاه ولن يصل للحقيقة , لأنه سيجد تسعة مواقع عن نظرية داروين تقول انها فشلت , وسقطت وتتعارض مع الموروث المقدس , وسيسأل نفسه ، الأكثرية تقول أنها خاطئة . ولما لم يكن لديه أرضية علمية , فسيكون موقفه : اذا هي خاطئة . فهو لا يعرف سبب هذه الهجمة على هذه النظرية , ومن يقف وراءها , ومن من الأنظمة الديكتاتورية  والملكية والأحزاب ذات التوجه الأصولي  ، والدين السياسي ، يدعم هذا التوجه المضاد للعلم ، ومن له مصلحة في أن لا تصل الأجيال الى فهم هذه النظرية عن التطور ,  ولا يعرف ماذا تقول النظرية ولا مدى تطابقها مع العلم وكم من العلوم انبثقت عنها , وكم من الأبحاث العلمية تنطلق من استنتاجاتها .

ان العرب والشرق الإسلامي يعيش حالة من القفر والعجز الحضاري , فليس لديهم وسيلة الا الاستعلاء باسم الموروث المقدس وتشويه معطيات الحضارة ومظاهرها ونظرياتها العلمية , ومن ضمنها " نظرية داروين " .

   رب سائل يسأل : ما دام العرب المسلمين عندهم العلم والموروث المقدس ، ويرفعون شعار " القرآن موسوعة علمية " , وأن القرآن ملئ بأمثلة الإعجاز العلمي ,  فلماذا لم يكتشفوا مثل هذه النظريات العلمية , ويسمونها بأسمائهم ؟ ولماذا يعشش الظلم والجهل  في ربوعهم , ولماذا لم يصنعوا أي شيء ممكن يفيد البشرية ؟  فكل ما هو موجود حولهم ليس من صناعتهم ،  وحياتهم تغص باللا معقولية  , ودوما في حالة اضطراب ، وتفسيرات للأحداث لا تمت للواقع بصلة .

     وحول هذا الموضوع يقول أحد الكتاب  : " في زمن الفراغ الفكري والعجز عن الإنجاز الحضاري الذي يعيشه المسلمون تبرز الحاجة لتعويض هذا الفراغ . وهذا ما نجده في موضة الإعجاز العلمي التي شاعت في عصرنا هذا وبولغ فيها الى درجة التكلف والتلاعب بآيات القرآن ولي أعناقها حتى توافق المكتشفات العلمية " . ( إعجاز علمي أم عجز حضاري – ايلاف ).
  وفي مقالة للباحث عبد الرحمن حللي "من العجز الحضاري في الواقع إلى الإعجاز العلمي في النص" حيث يقول في تفسير ظاهرة الإعجاز العلمي  :

   " ان ظاهرة التفسير والإعجاز العلمي ظاهرة ظرفية تعكس الوهن الحضاري والثقافة السائدة وستبقى في حالة مد وجزر ، وهي الآن في حالة طفرة ورواج سيعقبها زوال وكمون لانكشاف هشاشتها وعدم تأثيرها في دفع الحراك الحضاري للمسلمين ، بل إنها تؤدي دورا سلبيا خادعا , وهو تضخيم وهم الأسبقية واعتبار الإعجاز العلمي نصرا إسلاميا في زمن الهزائم الحضارية " . 

  ان تضخيم وهم الأسبقية ووهم الاكتفاء بما لدينا , وبما عندنا , وتشويه النظريات العلمية في وعي الجيل , لا يعكس العجز الحضاري وحسب , بل ويُخرج الجيل من زمن العصر، ويؤخر مجيء الصحوة الحضارية , ويطيل فترة الذيلية الحضارية عند العرب  .

 فنظرية داروين في جوهرها هي إرساء فكرة التطور في الأحياء , وان الأنواع تتعاقب ولا تتجاور فقط , وإنها ليست ثابتة , ولن تبقى ثابتة , وإنها تمتلك ماض وحاضر ومستقبل , وأنها تتغير وتتطور .

وفكرة التطور تنطبق على نظرية داروين نفسها حيث لم تبق كما صاغها داروين ، بل هي نفسها تطورت، فبعد داروين تطورت العلوم و التكنولوجيا  واستطاع العلماء اكتشاف دور الحمض النووي في تمرير العوامل الوراثية من جيل إلى جيل. وهذا ما أدى في منتصف القرن العشرين الى جمع و استيعاب كل المعلومات الجديدة لتحديث نظرية التطور. والى يومنا هذا يرى علماء البيولوجيا  أنه لا بد من مراجعة أخرى لتحديث النظرية، والتي يسميها البعض    "النسخة الثانية " من نظرية التطور.                                                               

 فعلى سبيل المثال شبه داروين التطور  "بشجرة الحياة" وبان التطور ينمو مثل نمو الشجرة، تبدأ لشجرة بجذر واحد أصلي وبعدها يتفرع الى عدد لا يحصى من الجذوع المتفرعة. أما علماء البيولوجيا المعاصرين فيقولون أن التطور يشبه الشبكة أو غابة بدلا من الشجرة. حيث قال جورج فورد دوليتل، مؤيد داروين وعالم الأحياء في جامعة دالهاوزي في هاليفاكس ( نوفا     سكوتيا- كندا) "إننا نفهم التطور جيد لكن التطور أكثر تعقيدا مما تصوره داروين"...         

   وبعد مرور مائتي عام على مولد العالم البريطاني شارلز داروين، قام البروفيسور البريطاني بيتر غرانت، الأستاذ بجامعة برنستون الأمريكية، وخريج جامعة كامبريدج البريطانية. وزوجته بارابار، الحائز على جائزة كيوتو لعام 2009 في العلوم الأساسية، بعد أن قضيا خمسة وثلاثين عاما على جزر غير مأهولة بالبشر، تسمى بجزر الجالا باجوس، الواقعة في جنوب شرق المحيط الهادي. وقد درسا على هذه الجزيرة، التي زارها داروين في عام 1835 وأكمل فيها أبحاثه، علاقة المناخ بالتطورات الطبيعية البيولوجية، باختيارهم طيور البرقش لدراسة علاقة التغيرات المناخية بتطور 13 نوعا من هذه الطيور خلال الثلاثة ملاين سنة الماضية. وقد ركزت أبحاثهم على إجابة الأسئلة الثلاثة التالية: كيف تتشكل الأنواع الجديدة من طيور البرقش؟ وما علاقة منافسة البقاء في تشكل أنواعها المختلفة؟ ولماذا تختلف في صفاتها كشكل المنقار وحجم الجسم؟
لقد كانت أهم نتيجة لدراسة البروفيسور جرانت هو اكتشافه، بأن ظاهرة التطور بالاختيار الطبيعي، متعلقة بالتغيرات المناخية، ويمكن مشاهدتها وقياسها وتفسيرها في فترة زمنية قصيرة، مخالفة بذلك نظرية داروين بأن هذه التغيرات تحتاج لقرون طويلة لملاحظتها. وقد كانت من أهم اكتشافات البروفيسور جرانت، هو علاقة التطورات في شكل منقار وحجم هذه الطيور بالتغيرات المناخية. فلاحظ البروفيسور بأنه في فترات الجفاف، تقل كمية الماء في نباتات الجزيرة، فتجف بذورها، ويصعب على طيور البرقش تفتيتها، فيكبر حجم منقارها، لكي تستطيع التغذية على هذه الحبوب الجافة الخشنة. بينما في فترات زيادة الأمطار، تلين البذور النباتية، لزيادة كمية المياه فيها، مما يؤدي لضمور حجم المنقار. كما اكتشفت زوجة البروفيسور، باربارا، ترافق التغيرات البيئية بتغيرات في مورثات وجينات هذه الطيور أدت لتغيرات في حجم المنقار وقوة عضلاته.

وقد شاركت اليابان بشكل كبير في تطوير نظرية النشوء والارتقاء، ففي عام 1968 قام العالم الياباني، موتو كيميورا، بطرح نظرية الحياد والتطور النووي، حيث أكتشف بأن مادة "الدي إن إيه" البروتينية، المكونة لجينات المورثات، لا تبقى في شكل ثابت، بل هي في تغير وتطور مستمر، وبأن 80% من طفرة هذه التغيرات الفجائية في جينات المورثات ليست ضارة ولا نافعة، ولكن تبقى بعضها مهمة للتخلص من الصفات الوراثية السلبية، كما أن القليل منها تلعب دورا إيجابيا في تحسين هذه الصفات وارتقائها. وقد أصبحت هذه الفرضية أحد الأعمدة الداعمة لنظرية دارون في الارتقاء مع الانتقاء الطبيعي.كما أثبتت أبحاث البروفيسور الياباني، ماريكو هاسيجاوا، بأن هذه الطفرات في جينات المورثات تنشط مع التغيرات البيئية.

    فالداروينية أصبحت في عصرنا مذهبا ليس للتطور العضوي , بل تفرعت تطبيقاتها الى كافة مناحي الحياة الفكرية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية  والعلمية , فالأفكار التي لا تتناسب مع الحياة الجديدة تسقط ولو تساندها كل الأجهزة القمعية والمخابرات . والمجموعة الاجتماعية أو الحزبية اذا لم تطور نفسها وتكيف أساليبها وآرائها مع الواقع الجديد , ستعاني من انشقاقات وتكتلات جامدة تؤدي الى تفككها واضمحلالها . وأي مؤسسة اقتصادية لا تطور منتجها وتعمل على تحسينه باستمرار , لا بد أن تتوقف مبيعاتها وتكسد بضاعتها , وبالتالي تغلق أبوابها . كذلك وصلت الداروينية الى التكنيك العسكري , فالجيش الذي لا يمتلك التكنيك العسكري الجديد والمتطور , ولا يعمل على تطوير قدرات أفراده باستمرار , ولم يستوعب التكنولوجيا العسكرية المتطورة , فانه سيصاب بالهزيمة عند أول مواجهة مع جيش حديث التكنيك والتكتيك .

 كذلك تنطبق الداروينية على الأفكار العلمية الجديدة والتي تمحو  الأفكار الغير واقعية والمختلطة بالأساطير من عقول البشر , وذلك لكونها تملك قوة الجديد والمتطور والمتناسب مع الحياة في الشكل والمحتوى .

  وفي الحياة الفردية من يملك قدرات فردية أكثر – كل في مجاله -  يتفوق على أقرانه ويسود عليهم .

ماهي الدولة ؟؟هل للدولة دين ؟

لا تزال هناك صعوبات في تعريف الدولة , فالدولة مشتقة من كلمة STATUS أي حالة أو وضع , لذلك تعددت التعريفات الغير متفق على جزئياتها من قبل الجم...