الثلاثاء، 29 نوفمبر 2022
الاثنين، 21 نوفمبر 2022
الغش المعرفي
في أحد مشاهد فيلم (الكيف) يحكي تاجر المخدّرات الشرير للكيميائي النزيه إحدى قصص حياته، فيخبره كيف أنّه استهلّ تجارته ببيع الشاي وتعمّد أن يغشّ الشاي بخلطه بنشارة الخشب الرخيصة، وكيف أنّ الناس استمرأت طعم ذلك الشاي (وكيّفت) عليه، حتى أتي يومٌ ارتفع فيه سعر نشارة الخشب وصارت مكلفة فاضطرّ لبيع الشاي صافٍ دون أي خليط، فكانت النتيجة المفاجئة وهي انزعاج عملائه من الطعم الجديد للشاي ومقاطعتهم له ممّا أدّى به إلى الخسارة في نهاية الأمر.
يختم التاجر قصّته بقوله: "مش باقول لك مغفلين؟" ولكنّ الكيميائي يجيبه بقوله: " همّ اللي مغفّلين ولّا انت والغشاشين اللي زيّك فسدتوا ذوقهم؟ عوّدتوهم ع الوحش لغاية ما نسيوا طعم الحلو".
يختصر هذا الحوار جدليّة التأثير بين الغش وفساد الذوق، حيث يساهم كلٍ منهما في استمرار الآخر فتنحدر المجتمعات بفقدان الأمانة وانعدام الحصانة.
من أبرز وأخطر أمثلة الغش وفساد الذوق المصاحب له، ذلك الغشّ الذي تمارسه أقلام الكتّاب والمثقفين حيث أنّ ما يتعلّق بأثره من فساد الذوق لا يرتبط بأمور ثانويّة خفيفة الضرر بل يرتبط بالوعي العامّ للمجتمع وصيانته من الانحطاط.
يعرف معظمنا عن فوائد الكالسيوم لعظام الجسم، ولكن قد لا يعرف البعض إمكانيّة انخداع أنسجة الجسم تحت ظروف غير سويّة لتمتصّ عنصراً يشابهه كثيراً في التكوين الكيميائي وهو عنصر (الأسترونتيوم) الذي يتّحد كيميائياً مع الأكسجين والهيدروجين والنيتروجين بطريقة مشابهة لما يفعله الكالسيوم، لذلك ترتفع إمكانية حلوله مكان الكالسيوم في الخلايا العظميّة فيتسبب ذلك في أحد أشهر سرطانات العظام. وعندما نتحدّث عن إمكانية حلول المثقف المزيف مكان المثقف الحقيقي وسطوه على دوره في المجتمع وعاقبة ذلك فالأمر لا يختلف كثيراً عنه في المثال السابق.
هناك من أرباب الغش الثقافيّ من يستعمل الجماهير في حين من المفترض به خدمتهم، ويكون ذلك بواسطة تبنيه للخطابات التي يعلم بفاعليتها في استقطابهم حتى إذا وصل إلى الدرجة التي ينشدها من النجومية خفت ميله إلى إرضائهم، بل وحاول أن يوجههم من موقعه بواسطة الإيهام ضد كلّ فكرٍ جاد أو عمل إيجابيّ، وهذا تقريبا يشبه سلوك الأسترونتيوم بعد نفوذه في العظام أو أنسجة الدم.
يستغلّ الغش الثقافي مظاهر الشبه السطحيّة من مظهرٍ ولغة وطريقة خطابيّة ليمرّر ذلك على الوعي العام، بل أن الشبه قد يتجاوز ذلك فيتظاهر المثقف المزيّف بتبني ذات القضايا المتوقع بالمثقّف الحقيقي تبنّيها، وإن لم يكن بنفس الطريقة الجادّة العميقة التي تساهم بالارتقاء الذهني للجماهير بل بطريقة تسطيحية مبتذلة تخاطب الغرائز والعواطف بدلاً عن تحفيز العقول بالنظر الجادّ.
في آخر كتبه يضع المفكّر الفرنسي (باسكال بونيفاس) المثقفين المزيّفين في صنفين أحدهما يتضمّن أشخاصاً صادقين في إيمانهم برؤى معيّنة، مندفعين في تأييدها بحماس ولكنّهم لا يتورّعون عن الكذب في سبيل إيصال الناس لما يقتنعون به أفكار. وصنف آخر أطلق عليهم تسمية المرتزقة وهم من لا يؤمنون بما يقولونه ولكنهم يتبنون آراءهم في كلّ مرة بحسب ما تحقق لهم من منافع شخصية مباشرة. إذن فرغم الفارق بين الصنفين السابقين إلّا أنّهما يشتركان في كون كليهما يتورّط عند مواقف معينة في (الكلام بخلاف ما يعرف). لذلك أجد نفسي مضطرّاً إلى إضافة صنفٍ ثالث عمّت به البلوى مؤخّراً وهو ذلك الصنف الذي يتكلم في (ما لا يعرف) رغبة منه في البقاء الدائم داخل بؤرة الاهتمام والمتابعة مع أمان عجيب من سلطة النقد الواعية.
مع عزوف الناس عن القراءة وتعوّدهم على سرعة الرتم الإعلامي الذي لا يسمح لهم بتأمّل الحقائق، تزداد قابليتهم لابتلاع جرعة استرونتيوم إضافية كل يوم، فتفسد أذواقهم تدريجياً حتى إذا طال بهم الأمد مجّوا طعم الشاي الجيّد وتشوّفوا لطعم نشارة الخشب الذي تعوّدوا عليه.
إنّ مكافحة الغش الفكريّ تفوق مكافحة الغشّ التجاري أهمية، ولكن بما أن وضع الأفكار تحت الوصاية الدائمة نوع من الغش كذلك. فإن مسؤولية تحقيقها ملقاة على كل من يرى في نفسه القدرة على التمييز ليساهم في تعريض آراء المزيفين للضوء الكاشف، فلا شيء أمضى في الوصول إلى صيانة الوعي العام من مفرزة نشطة من النقد والتساؤل.
منقول عن صفحة عبد الرحمن مرشود
= فعلا ، مسألة الغش الفكري مسألة خطيرة جدا في أنه يتم تزييف وعي الجماهير عن طريق الخلط في المفاهيم ، وطرح مفاهيم في غير مدلولاتها ... وهيهات أن نعيد المفاهيم الى مدلولها الصحيح .. كالقول أن العلمانية هي الكفر ، والديمقراطية هي الشورى ، الأخلاق الدينية هي قمة في الانسانية ..
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)
ماهي الدولة ؟؟هل للدولة دين ؟
لا تزال هناك صعوبات في تعريف الدولة , فالدولة مشتقة من كلمة STATUS أي حالة أو وضع , لذلك تعددت التعريفات الغير متفق على جزئياتها من قبل الجم...
-
قرأت لكم : القرآن كتاب الشيطان الأخير للكاتب : فري دوم ايزابل لقد أصابني هذا العنوان بالدهشة والعجب ، وتسائلت ، كيف ، وهل ممكن هذا ، فال...
-
قراءة في كتاب "حفارو القبور للفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي بقلم نافذ الرفاعي جاء هذا الكتاب ردا على اسئلة في محاضرة ألقاها في القا...
-
منذ سن الطفولة يتكون وعي الإنسان على أساس الكلمات , اللغة . ذلك لأنه بواسطتها يجري التعبير عن أفكارنا . وفي سياق هذه العملية ينشا تدريجيا ...