الاثنين، 31 مارس 2014

اشكالية العلم مع الميراث القدس


   اشكالية العلم مع الميراث القدس

      
       " إن كل انسان يستحق المعرفة " .

       " ان ما لا أفهمه لا يعني أنه غير معقول ، لأني لا أفهمه "   سقراط

 

  أن تُحيل مهمة القيام بعمل ما على غيرك ، لهو أسهل من أن تقوم أنت بنفسك بهذا العمل . ففي العصور القديمة حينما كان الانسان البدائي أقرب الى البساطة ، كان كثير اللجوء الى الآلهة ، فتفكير الانسان كان لا يتعدى الأشياء البسيطة المحيطة حوله . ومن آن لآخر كانت هناك مشاهدات وأحداث  تفرض نفسها عليه ، مثل الزلازل والبراكين والكواكب والنجوم والرعود والأعاصير . فهذه الأحداث والظواهر أكبر من أن يجد لها أسبابا مفهومة ، لهذا فقد أحال هذا العمل الى الآلهة ، وركن لهذا عقله ومستوى تفكيره الذي لا يستطيع ان يذهب أكثر من هذا .ففي ميثولوجيا الشعوب تجد مثل هذا الاستنتاج والذي اصبح من الموروثات التي تتناقلها الأجيال  جيلا بعد جيل .

  ان الاحترام للآباء والأجداد والذكريات  قد أكسب الموروثات الثقافية المتناقلة من جيل الى  جيل صفة القداسة ، والتي أصبحت من الجوانب التي يتميز بها كل شعب عن الشعوب الأخرى .

 ان الموروثات الثقافية والسلوكية والأخلاقية لكل شعب كانت كثيرا ما تختلط بالأساطير والخرافات التي كثيرا ما كانت ترتبط بالمنطقة الجغرافية التي يعيش بها كل شعب ، وطريقته في الحصول على الغذاء . وكثيرا ما كان يجري تضخيم بعض الأحداث التي كانت تحدث في القبيلة  لبث الشجاعة وتعزيز الانتماء والترابط داخل القبيلة . لهذا نجد تنوعا كبيرا في موروثات الشعوب وعاداتها في الأكل واللباس وطقوس عبادة الآلهة ، بل وتنوع الآلهة .

  وفي العصر الحديث نرى أن تنوع الشعوب لا يصنف بناء على درجة التطور الحضاري ، بل بالسمات الثقافية والموروثات المقدسة ، بالإضافة الى الموقع الجيوسياسي . لهذا نجد شعوبا لديها من الاعتزاز بالموروثات الى الدرجة التي تسبب انعزالها عن مسيرة الحضارة الانسانية والتطور العلمي .

  ان الموروثات الثقافية والأخلاقية قد أصبحت من القداسة بحيث أصبح الايمان بها من المسلمات التي لا تقبل النقاش أو التفكير ، أو طرحها بشكل آخر . انها تقترب من العبادة للنصوص . انها الأصولية المغرقة .

    ان الايمان هو التسليم والاعتقاد ومنح صفة الكمالية للموروثات الثقافية والاجتماعية عند شعب من الشعوب .

  فكثيرا ما تقف الثقافة الموروثة المختلطة بالأساطير حائلا أمام الأجيال من كلا الجنسين للتعلم وقبول النظريات العلمية .

  وفي الجانب الآخر نرى العلم يقوم على الحقائق المستخلصة من التجارب الناجحة والتي تكررت تجربتها فترسخ الايمان بها والثقة بنتائجها .

  أن تصديق الأساطير والإيمان بها ، هو بحد ذاته كفر وتكذيب لما تثبته الأدلة والتجارب الواقعية ، وهذا من جهة اخرى استهزاء بمقدرة العقل على التفريق بين ما هو صادق وما هو كاذب . ان الايمان باللا واقعي هو تهيئة النفس على السير في الخطأ الى أبعد حدود . فهو لن يلغي العلم وفوائده للبشرية وراحة الانسان ، بل يتعدى ذلك الى الغاء حق الانسان في الحرية والتعليم والمعرفة .

  ومن الملاحظ في الكثير من الإطروحات والمؤلفات نجد استخداما للنصوص الدينية لنقد نظرية علمية وتبيان ان استنتاجاتها خاطئة بناء على تلك النصوص .وبالتالي ان إقحام النصوص الدينية في مقابل الأفكار العلمية يجعلها عرضة للنقد من وجهة النظر العلمية التجريبية والتي لا تعترف بالمسلمات الغير مدعومة بالأدلة والإثباتات الواقعية التي تعتمد على التسلسلية السببية .

فمثلا نرى أن ممثلي الكنيسة حرقوا " جوردانو برونو" لأنه قال بلا مركزية الأرض للكون . وأيضا نجد أن مفتي الديار السعودية وهو المرجع الديني المعتمد عند كافة المسلمين ، الشيخ عبد العزيز بن باز يصدر فتوى سنة 1993م يعارض فيها  كروية الأرض  ، ويؤكد أنها مسطحة ، وأضاف أن كل من يعتقد بكروية الأرض فهو كافر وتجب معاقبته .

   كذلك هناك مسلمات تقول أن الأرض محاطة بطبقات ، أغلفة ، قِبابْ ، سماوات ، مقابل الفكرة العلمية التي تقول بلا نهائية العالم في الامتداد المكاني . وأن السماء الدنيا ، أي سماء الأرض الأولى مزينة بمصابيح تطلق شهبا لرجم الشياطين التي تسترق السمع لما يجري في العرش الالهي ، مقابل الفكرة العلمية القائلة بأن هذه الشهب تحدث نتيجة انفجارات وتفاعلات تحدث في النجوم اكتشف العلماء كيفية حدوثها ، وتنطلق في كل الاتجاهات .وهناك من ينادي بان مثلث برمودا هو " مملكة للشيطان " .

  أيضا نرى مواقف ونصوص دينية تستخدم لمنع التلقيح الصناعي للبشر في المختبر الذي ظهرت فوائده للكثير ممن لديهم مشكلة في الإنجاب .

   كما أن هناك فتاوي مصدرها ديني تعارض فكرة الاستنساخ ، وتتدخل في العلوم الطبية بشكل صارخ ، مثل تبني علاج الأمراض ب "بول الإبل " الذي يحتوي على كميات كبيرة من السموم ، وأن شرب بول الإبل يؤدي حتما الى الفشل الكبدي نتيجة تجمع السموم فيه . وبالمقابل يصر الشيخ محمد الصاوي أن يعالج الناس ببول الإبل  ، حيث يقول :  " إذا اصطدم العلم مع الشرع فيكون الخطأ في الطب وليس الشرع لافتا إلى أن العلاج ببول الإبل جاء في الشرع والسنة وإذا كان العلم قد حذر من العلاج ببول الإبل فهذا ليس معناه أن هذا مخالف للشرع بل الخطأ في الطب والعلم " .

وبهذا يصر الشيخ محمد الصاوي أن يعالج الناس ببول الابل ، وفوق هذا يرفض العلم الطبي الذي يؤكد ان البول يحتوي على مواد سامة ومضرة بالجسم ، لهذا يتخلص منها الحيوان عن طريق الاخراج ، فكيف يأتي الانسان ليشربها .

  كذلك نجد النصوص الدينية تستخدم لتأييد نظرية الخلق التوراتية ، ونظرية الانفجار الكبير التي تريد إثبات أن للكون بداية ، وستكون له نهاية ، أي سينتهي يوما ما الى عدم . وفي هذا نفي لقانون بقاء المادة  القائل بأن المادة لا تفنى ولا تخلق من عدم ، الذي أثبته العلم والتجربة العملية .

  وأيضا نجد استخداما لنصوص دينية شتى لمعارضة نظرية النشوء والارتقاء المرتكزة على الانتخاب الطبيعي في تطور العضويات التي قال بها العالم الانجليزي " تشارلز داروين " من خلال مشاهداته في الطبيعة بعد رحلته العلمية التي قام بها على السفينة بيجل سنة 1831 م  والتي استمرت خمس سنوات ، عاد بعدها داروين الى انجلترا ، وبدأ في مقابلة ما جمعة من مشاهدات فتوصل الى نظرية التطور التي اقترنت باسمه .

  إن المسلمات المستوحاة من الميراث المقدس تعطي لدى المؤمن بها انطباعا بأن ما لديه هو الحقيقة الكاملة ، فلا حاجة لغيرها . فمثلا حينما يجد الطالب نصا يقول : " ما فرطنا في الكتاب من شيء " ينزرع في عقله أنه لا فائدة من دراسة أي من النظريات العلمية والفلسفية ، فالكتاب يحوي كل شيء ، وأن غيره من الاكتشافات العلمية مشكوك في صحتها ولا لزوم لها في الحياة .

 وحينما تقول النصوص الدينية هذا من علم ربي ، فإن هذا يعني أن هذا العمل يفوق مقدرة البشر ، وهو من المعاجز التي لا يمكن أن يتوصل اليها العلم والعقل البشري . فما على الانسان إلا أن يترك هذا المجال لأنه حتما سيفشل ، وأن دوره يتلخص في أن يتأمل في هذه المعجزات ويتصورها في عقلة ويسلم ويؤمن بها .

  والمعاجز كثيرة لا حصر لها ، ولا يجب أن يتساءل الانسان كيف تسير هذه الكواكب ، وما هي قوانين الميكانيكا التي توضح لنا كيف تسير هذه الكواكب وما هي العوامل الكامنة في المادة التي تمنعها من الاختلال .

    فحركة الكواكب والنجوم معجزة ، والقوة الحيوية الكامنة في الكائنات الحية معجزة ، والوراثة وانتاج المثيل معجزة ، والزلازل والبراكين والأعاصير معاجز ، وانها أدوات ممكن استخدامها كوسيلة لعقاب العصاة من البشر . وهذه الظواهر وكثير ، كثير غيرها لا يجب على الانسان أن يحاول أن يكشف أسرارها ، وبهذا ينتهي دور العلم في البحث والتنقيب وفهم ظواهر الكون .

  وما على الانسان الا أن يتفكر في المقدرة الهائلة الكامنة وراءها ، فحدوده لا يجب أن تتعدى التصور العقلي والتأمل والاندهاش الذي يضعه في خانة الايمان بها فقط . والقول أن " لن تنفذوا الا بسلطان " ،  فليس السلطان هو العلم التجريبي كما فسره المفسرون ، بل الاذن من المُعلم مالك كل شيء ، ومعلم كل شيء ، وأن كل شيء يتعلمه الانسان في حياته هو بإذن الله ، " علم الانسان ما لم يعلم " ،  وبالقدر الذي يسمح به الله . وفي هذا خلط بين تعليم الله للبشر الأحكام الدينية لنيل رضى الله وبركاته ، وبين العلم التجريبي الذي يقوم به الانسان ليعرف كيف يتعامل مع الموجودات ويستخدمها لصالحة ، حسب الحديث " أنتم أعلم بأمور دنياكم " .

  فليس هناك من كتاب ديني يُعتبر موسوعة علمية ، ولا يمكن اعتبار النصوص الدينية نظريات علمية ممكن اخضاعها للتجربة ، فالدين يعلمنا الأحكام الدينية التي نصعد بها الى السماء ، لا كيف تسير السماء .

 وفي هذا يقول الشيخ متولي الشعراوي :  

     ان الذين يقولون ان القرآن لم يأت ككتاب علم  صادقون ذلك أنه كتاب أتى ليعلمني الاحكام. .ولم يأت ليعلمني الجغرافيا أو الكيمياء أو الطبيعة.

  إن الغوص في المفاهيم والمقولات الدينية والنصوص يسحبك الى المجهول والى الغيب ، بينما المفاهيم والمقولات العلمية تسحبك الى الواقع والارتباط بالواقع والحياة العملية .

  ان البحث في قلب الطبيعة التي نعيش فيها ، هو الوسيلة التي نكتسب بواسطتها المعرفة التي يتم تطبيقها ، وان الغوص في الميتافيزيقا لن يجعلنا نتقدم في العلم والحياة خطوة واحدة .

  فحسب المنطق الديني ، لا علم إلا علم الكتاب المقدس ، إذا فالإنسان الذي يحصر نفسه ضمن هذا الفهم سيكون محدود المعرفة ، وهي معرفة مأذونة ، وموجودة في الكتاب المقدس فقط ، وقد وصلت الى الانسان دُفعة واحدة . من هنا لا يمكن للذي يحصر نفسه ضمن هذا الاطار أن يكون عالم في الطبيعة أو في الفلك أو في الفيزياء أو في الطب إلا بقدر تزحزحه عن خانة الاعجازية باعتبارها ممكنة بشريا .

  وهناك من يحاول أن يضع العصى في دواليب العلم بطرح مسائل تعجيزية أمام العلم ، مثل القول : إخلقوا ذبابة ؟ إحيوا  الميت ؟ طبعا هذا غير ممكن ، وهذا المنطق يريد أن يضع العلم في الخانة الاعجازية ، وبالتالي الفشل .

  إن العلم لا يسير بهذه الطريقة ، أي المعرفة الكاملة دفعة واحدة . العلم يسير رويدا رويدا ، درجة ، درجة ولن يتوقف ، فالبحوث تتفرع ، من جديد الى جديد . إن الطريقة العلمية في المعرفة تقود الى التيقن والتأكد والمصداقية في النتائج .

  إن طريقة المعرفة دُفعة واحدة هي الطريقة التي تتبعها الكتب المقدسة الصادرة عن الوحي ، هي التي تخلق لدى الانسان فكرة المعجزات ، والتي جاءت من " كن فيكون " ، فإذا الشيء كائن وبلا مقدمات . إن مفهوم كن فيكون يقود حتما الى الاعجازيات ، الى الخوارقية ، الى الايجاد الفجائي بضربة واحدة ، الى تصغير المُتلقي ، الى الخوف ، الى تضخيم الغيب ، الى العجز ، الى التسليم .

  في الحياة العملية ، أن يُطلب من مهندس أن يبني برجا من ثلاثين طابقا في غمضة عين ، هو طلب تعجيزي ، ولكن ممكن بناء برج من أربعين طابقا مع توفر الامكانيات والزمن .

  إن العالم الانساني اليوم ليس بعالم المعجزات التي سمعنا عنها في الكتب المقدسة ، ان عالم اليوم هو العالم الواقعي الذي يؤمن بالممكنات ، فكثير من الأفكار كانت موضوعة في اطار المعجزات ، ولكن مع تطور العلوم أصبحت ممكنة وفي متناول الانسان وعقله . فقبل 200 سنه كان الوصول الى القمر خارج مقدرة البشر ، ولا تتم إلا بمعجزة ، والآن أصبحت شيئا عاديا ، وهناك دراسة لتدشين رحلات الى القمر . وقديما كانت معرفة جنس الجنين من المعجزات ، والآن أصبحت معرفة جنس الجنين متوفرة في أبسط العيادات الطبية .

 والآن وقد تأكد للعلماء وجود التواصل بين الطبيعة النووية والكيمياء الجزيئية وهي قدس الأقداس المتمثل في طبيعة التناسل والوراثة . وما هي إلا خطوات بسيطة تعتمد على سلسلة من الحقائق التي يمكن استخدامها لفهم التعقيد الهائل وتنويعة الكائنات الحية .

 اننا نلاحظ أنه في المجتمعات الأقرب الى التفكير الزراعي لا توجد تحديات قوية تتطلب العلمية في التوجه ، ولا تستتبع التغيير الجوهري ، إنما تتعامل مع المعاضل بطريقة بسيطة ومحاولة الابتعاد عن العلم ومتطلباته . أما الاقتراب من العلم وأفكاره ومتطلباته فهو المروق والهرطقة .

  في مثل هذه المجتمعات لا يمكن الاقتراب من نظرية مندل في الوراثة  ولا نظرية داروين في التطور التي تقول بالانتخاب الطبيعي ، وأن الكائنات الحية تتعاقب ولا تتجاور . ولا الاقتراب من فهم ماذا تعني قوانين الميكانيك  التي توضح آلية حركة الكواكب والنجوم ، ولا معرفة المعاني العميقة لقانون بقاء المادة  ، وقانون بقاء الطاقة .

  وفي المجال الاجتماعي ممنوع الاقتراب من الأفكار الداعية للديمقراطية والعلمانية والتعددية الحزبية والدولة المدنية التي تؤمن بحقوق المواطنة للجميع ، وبتساوي المواطنين أمام القانون  بغض النظر عن اللون والجنس والعقيدة .

 كل هذه ممنوع التعرف عليها بمعناها الفعلي ، بل يجري تشويه المفاهيم والنظريات العلمية ، وتبيان عدم جدواها ، فلا داعي للتعرف عليها أو التفكير في تفاصيلها ، أو مناقشتها ، ومن يعترف بها ، فهو خارج عن الجماعة وتجب معاقبته .

 إن هذا التوجه المضاد للعلم له انعكاسات سلبية تصل الى حد الاحباط للجيل ، إنه إسباغ الجمود على التفكير ، عدا عن افتقاره الى التشجيع والمعاصرة .

 

   من هنا يجب أن نقدم العلم الى الأجيال بطريقة صحيحة ، حتى لا يصرخ طلبتنا : ما علاقة هذا الذي نتعلم بعصرنا هذا ؟  ويتلاشى الاحترام للمعلم ، ويصاب الطلاب بفتور همة ، وفقدان الحماس للتعلم ، فما ترى الا وأنهم قد ضاعت منهم فرحة الاكتشاف للحقائق . وتسود في التعليم فكرة الحفظ والصم ، الخالي من الفهم والقلق والشك وحب معرفة الحقيقة . ويشعر المعلمون باليأس من تدهور المعايير التعليمية . وعندها يحتاج الطلبة والمعلمون أن يعلموا أنفسهم مهارة جوهرية واحدة وهي : أن يتعلموا كيف يتعلمون . ان هذا ضروري لكي يعود التعليم الى المسار الصحيح ، وحتى لا تضيع فرحتنا بميلاد أطفال سيعيشون حياتهم جهلاء ، أو أنهم مواليد بلا مستقبل .

  إن البحوث في المحيط العربي ميته وتقليدية مثل أنظمتها السياسية ، وهم يعيشون على خير البلاد الموجود دون التفكير في استنباط طرق جديدة لزيادة الدخل الوطني ، فهم بذلك يأكلون بذور الحبوب المخزونة لديهم الآن ، ويشبعون دون النظر ماذا سيزرعون في السنة القادمة ، ولا يفكرون ماذا ستقول عنهم الأجيال القادمة .

   وبهذا يصدق القول عنهم : " أنهم أُناس بلا مستقبل " .

 وفي الواقع لا يمكن فصل العرب عن الاسلام ومنحاه الديني والدنيوي ، فأكثر من ألف سنة ويزيد من الصراعات الدينية والعائلية والمذهبية قد عزلتهم بكل ما في الكلمة من معنى عن المشاركة في النهضة والثورة العلمية التي شملت العالم .

    انظر حولك ، لا يوجد شيء من صناعة المسلمين ، فالعمران البشري ومتطلباته والطرق والمواصلات وملحقاتها ، والكهرباء واستخداماتها ، وعلوم الفلك والفضاء ، وثورة الاتصالات . كل هذا لم يشارك  فيه المسلمون بأي شيء كمسلمين ، ويدعون أنهم دعاة علم وتفكير ، وفي هذا لا يخدعون إلا أنفسهم . فلم توجد نظرية أو اكتشاف علمي تحمل اسم " نظرية عبدالله " ، أو نظرية سليمان " ، أو نظرية عبد الرحمن ، أو محمد أو محمود ، فكل النظريات باسم مكتشفيها من الأجانب .

 

 إن النظريات العلمية هي نتاج بشري انساني ، لا يجب أن يخضع للانتقائية ، أو المقاييس العرقية أو الجغرافية أو القومية أو الدينية ، بل يجب أن تقاس بمنفعتها للجنس البشري في حياته على الأرض .

  فالعلم للجميع ، ليس له قومية ، أو حدود سياسية ، ولا يخضع لتقسيمة : شرق وغرب ، أو شمال وجنوب . إنه أُممي بكل معنى الكلمة .

 إن الجهل بالعلوم يسير في ترابط عضوي مع الظلم الاجتماعي ، فلا غرو أن الثورات السياسية تهدف الى غسل المجتمع ، وتهدف الى تفعيل نزعة الشك والتساؤل وحب المعرفة . حيث أن الحرية لا يمكن اكتسابها إلا بالعلم والمعرفة الحقيقية .

الجمعة، 28 مارس 2014

هل كان حمورابي نبياً ؟

 ما من أحد ينظر الآن الى موقع مدينة بابل القديمة إلا ويتساءل كيف أن هذه البطاح الموحشة ذات الحر اللافح الممتدة على نهر الفرات كانت من قبل موطن حضارة غنية قوية كادت تكون هي الخالقة لعلم الفلك ، وكان لها فضل كبير في تقدم الطب ، وأنشأت علم اللغة ، وأعدت أول كتب القانون الكبرى ، وعلمت اليونان مباديء الحساب ، وعلم الطبيعة والفلسفة ، وأمدت اليهود بالأساطير القديمة التي أورثوها العالم ، ونقلت الى العرب بعض المعارف العلمية والمعمارية التي أيقظوا بها روح أوروبا من سباتها في العصر الوسيط فيما بعد . واذا ما وقف الانسان أمام دجلة والفرات الساكنين فإنه يتعذر عليه أن يعتقد أنهما النهران اللذان أرويا بلاد سومر وأكد وغذيا حدائق بابل المعلقة .كما لم يخطر بباله أن هذه المناطق التي تبدو وكأنها كانت مقفرة على طول التاريخ قد ولدت حضارة متفرعة الجوانب وتتربع على قمتها شخصية قوية لها من الحكمة والحصافة والتعقل ما لم يصل اليها إلا قلة من الرجال الذين لمعت أخبارهم في التاريخ . وهذه الشخصية القوية هي شخصية حمورابي - سادس ملوك مملكة بابل القديمة - ( 2123 – 2081 ق.م ) الفاتح المشرع الذي دام حكمه ثلاثا وأربعين سنة .إن شخصية حمورابي الذي تُظهره الأختام والنقوش تجعلنا نتخيله رجلا يفيض حماسة وعبقرية ، ولديه الإصرار على نشر الأمن والنظام في ربوع دولته المترامية الأطراف بتطبيق شرائعه العظيمة .إن شرائع حمورابي التي وُجدت في مدينة " السوس " سنة 1902 كانت منقوشة نقشا جميلا على إسطوانة من حجر الديوريت والتي كانت قد نُقلت من بابل الى عيلام حوالي عام (1100 ق . م ) كغنيمة حرب .بماذا تعني هذه الشرائع ؟ هذه الشرائع هي بمجموعها تهدف الى تنظيم العلاقة بين الناس بعضهم ببعض ، وتبدأ من علاقة الفرد بالفرد ، وعلاقة الفرد بالجماعة ، وتضع أسسا وشرائع مُعلنة واتيح للجميع معرفتها ، وتحذر من يتخطاها أو يتجاهلها . وهذه الشرائع تحفظ للفرد ممتلكاته ، كما تحفظ للجماعة ، وتشمل الخاص والعام حتى تصل الى ممتلكات الدولة . وهي تمزج أرقى القوانين وأعظمها استنارة بأقسى العقوبات وأشدها وحشية . كما نجدها تضع قانون النفس بالنفس والتحكيم الالهي في نجاة المذنب ، وذلك بالقاء المتهم في النهر أو في النار ، فإن نجا فهو برئ ، وإن لم ينجُ فهو مذنب . إن هذه القوانين البالغة عدتها 285 قانونا قد رُتبت ترتيبا متدرجا ، فقسمت الى قوانين خاصة بالأملاك المنقولة والعقارية ، وبالتجارة والصناعة والأسرة وبالأضرار الجسمية وبالعمل . كما توضح هذه القوانين الاجراءات القضائية المحكمة والواضحة للحد من استبداد الأزواج بزوجاتهم . وهي من وجوه عدة لا تقل رقيا عن شريعة أية دولة أوروبية حديثة .إن المتفحص لهذا الشرائع لا بد وأن يتساءل ، من أين جاءت هذه الشرائع ؟ يجيب على هذا السؤال حمورابي نفسه إذ يفتتح شريعته بتحية الآلهة فيقول في مقدمة شرائعه : في ذلك الوقت ناداني " أنو الأعلى " و " بل " ، رب السماء والأرض الذي يقرر مصير العالم ، " أنا حمورابي الأمير الأعلى ، عابد الآلهة ، لكي أنشر العدالة في العالم ، وأقضي على الأشرار والآثمين ، وأمنع الأقوياء أن يظلموا الضعفاء ..., وأنشر النور في الأرض وأرعى مصالح الخلق . أنا حمورابي ، أنا الذي اختاره " بِل " حاكما ، والذي جاء بالخير والوفرة ، .... والذي وهب الحياة لمدينة " أرك " والذي أمد سكانها بالماء الكثير ، ..... والذي خزن الحب لأوراش العظيم ، والذي أعان شعبه في وقت المحنة ، وأمن الناس على أملاكهم في بابل ، حاكم الشعب الخادم الذي تسر أعماله " أنونيت " – Harper, R, F, Code of Hammurabi- 3-7 ) )ماذا يعني هذا ؟ يعني أن حمورابي لم يبتكر هذه الشرائع بل كان " شمش " إله الشمس الذي يرمز للحق والعدل في نظر البابليين، يوحي له بها ، وقد وُجد نقشا منقوشا على اسطوانة من الحجر يبين الملك حمورابي وهو يتلقى القوانين من الاله ، وتُوجد هذه الإسطوانة الحجرية في متحف اللوفر في باريس .إن هذا يعني أن مصدر هذه الشرائع الهي ، حسب ما يقول حمورابي ، بغض النظر عن مُسمى الاله ، وهذا يعني أن من له صلة بالآلهة فهو من مرتبة الأنبياء ، أو نبي . وهذا يعني أن حمورابي نبي من الأنبياء . بحسب التلمود، ولد النبي موسى بعد حمورابي بـ 400 سنة وتحتوي شريعة موسى بعض الأجزاء المطابقة لأجزاء معروفة من شريعة حمورابي. رُب معترض يقول أن حمورابي ربما كان يعبد الها مشخصا هو " الشمس " . فنقول أن الشمس لم تُرسل هذه الشرائع ، ولكن حمورابي يقول أن الاله أرسل له هذه الشرائع بالإيحاء ، كما قال الكثير من الأنبياء بأن الآلهة تتواصل معهم بطريقة أو بأُخرى ، فمرة تُرسل لهم ألواحا بها وصايا ، ومرة تظهر لهم البشارة كحمامة بيضاء ، ومرة برؤيا في المنام ، أو برسائل سريعة ذات مصدر خفي ، بالإيحاء عن بُعد ، أو بالوحي الظاهر المرئي . فكل الأنبياء تنوعوا في الحديث عن وصف الكيفية التي كان يتم بها تواصلهم مع الاله ، ولم يكن تواصلهم مع الله متماثلا ولا متشابها ، فلماذا لا يكون حمورابي مثلهم ، أو لا يكونوا هم مثل حمورابي ؟ .واذا لم يكن هذا ، بماذا نفسر التشابه الشديد بين ما جاءت به التوراة من شرائع وما جاء به حمورابي ، حيث هناك اعتراف مُسبق بأن النبي موسى قد تلقى التوراة من الله في سيناء . وحمورابي يقول أن شرائعه هي وحي من الآله . فمعنى هذا أن المصدر واحد ، أو أن شرائع حمورابي والشرائع التي في التوراة أُخذت من مصدر ثالث مشترك . وهذا سر التشابه بينهما .وبما أننا هنا في مسار التشابه بين شرائع الأديان الكتابية وشريعة حمورابي ، فمثلا ارتكز العقاب على قانون " العين بالعين والسن بالسن " وعلى مبدأ القصاص : " النفس بالنفس " المعروف ، وقد ورد مُفصلا في التوراة ، وأشارت اليه الآية القرآنية الكريمة : " وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس .... " الآية . إن جميع الشرائع والوصايا الدينية التي وصلت الينا في الأديان الكتابية قال بها الأنبياء ولم يكن شاهد فيها غير أنفسهم على أقوالهم والتصديق والثقة التي يؤمن بها أتباع كل دين . وهناك تشابه كبير بين ما قاله الأنبياء وما قاله حمورابي ، وهذا ما يجعل المتفحص لتاريخ الأديان لا بد وأن يضع حمورابي في صف الأنبياء . لقد كان الأنبياء مصلحون اجتماعيون في دعواتهم ويهدفون الى الاصلاح الاجتماعي ، وكانت دعواتهم ترتدي الشكل الديني لما لأثر الخوف من غضب الآلهة من أثر قوي على الناس . الا أن دعواتهم الاصلاحية لم تكن من العمق بحيث تهدف الى تغيير الأسس الاقتصادية والاجتماعية السائدة ، بل كانت شكلية ، ولا تتعارض الا مع القليل من المعتقدات الموجودة في المجتمع ، بل وكانت تثبت مصالح الطبقات العليا من طبقة حاكمة وملك وأسياد .فدعواتهم لم تلغِ العبودية ولا الملكية ، بل جعلتها حق مقدس تحميه الوصايا الإلهيه ، واذا وجدنا في أحد الأديان الكتابية دعوة لتحرير عبيد ، فإن هذه الدعوة لم ترتدي أو تنص على التحريم القطعي لامتلاك العبيد ، بل جعلت تحرير العبد وسيلة للتكفير على الذنوب ونيل رضى الآلهه .والملك لكي يدعم حكمه ، يجب أن يحكم باسم الآلهة ، ويُظهر التقوى والصلاح ، وكثيرا ما كان الأنبياء ملوكا ، فقد تم التزاوج العقدي بين المَلكية والنبوة في التاريخ . وقد رأينا أن حمورابي كان ملكا وله شرائع أوحت له بها الآلهه ، كما كان معظم ملوك بني اسرائيل أنبياء .

الثلاثاء، 18 مارس 2014

فُله تصلي في بلاد اليوكوشيما

في السوق ، طاف محمد بين المحلات والبسطات بطريقة وندوشوبنج ، فجيوبه خالية من النقود , واللي معوش ما يلزموش ، لا يعمل ، وتوقف في نصف الطريق ولم يكمل تعليمه ، ولم يحصل على شهادة جامعية ، فما أن دخل الجامعة حتى وجد نفسه أمام الرسوم الجامعية وأُجرة الموصلات حتى وصل الى السنة الثانية زحفا ، ولم يستطع السير أكثر من ذلك .
وكان لدراسته للتكنولوجيا هدفا لمواكبة التطور العلمي ، فمفهوم التكنولوجيا قد غزى كل شيء .
عاش محمد حياته يوما بيوم ، فهو لم يرث من والده غير الفقر ، وبعض العقلانية في تسيير الأمور , ولما أعوزه المال توقف في منتصف الطريق , لم يكمل ، خرج من الجامعة ، أخذ يبحث عن عمل ، على أمل أن يعود للجامعة بعد أن يجمع قدرا كافيا من المال .
دار محمد وبحث عن عمل في كل مكان ، لكنه لم يوفق . ما العمل اذن ؟
وها هو يدور في السوق ، كل البضائع ، صنع في الصين ، صُنع في اليابان .
ها ، لا بد أن هذه الدول بها فرص عمل ، فهي بلاد التكنولوجيا ، وتصنع كل شيء من الابرة الى الطائرة ، وتصدر كل شيء الى العالم .
ها ، وجدت الحل ، اطلبوا العمل ولو في الصين , لا بد من السفر الى الصين .
باع ما لم يلزم من الأمتعة ، جمع ما يستطيع جمعه من النقود ، وسافر الى الصين .
الصين خلية نحل ، عمل ، حركة ، نشاط ، صناعة ، كل شيء يسير وكأنه مبرمج ، لا مجال للغريب فيها الا للشراء ، أما العمل فللصينيين فقط . آه , وقعت يا شاطر ، وما فيه حدا سمى عليك !!!
ما العمل ، لا بد من متابعة المسيرة الى اليابان . وفعلا ، غامر بما تبقى معه من النقود ، وألقى بكل ماء قربته آملا في غيمة ماطرة في اليابان .
وصل محمد الى اليابان ، وظل يسأل بلغته الانجليزية الركيكة عن مكان رخيص ممكن أن يستقر به ، ومنه يبدأ مسيرته في البحث عن عمل .

شد الرحال الى قرية بعيدة نسبيا عن العاصمة ، تدعى " يوكوشيما " ولكنها رخيصة في الاقامة فيها .
وصل محمد الى " يوكوشيما " , ومنها انطلق للبحث عن عمل ، فطرق كل باب ، وسأل كل المحال التي صادفته . ولكن ، لا عمل .
مضى اسبوع وهو على هذا الحال , والآن وقع في الحفرة ، ولا أحد يستطيع أن ينقذه منها غير العمل بأجر , أي عمل .
لفه شعور بفقدان الأمل بالحصول على عمل , فخرج متجها الى المنطقة الصناعية , وهي الملاذ الخير . دخل أحد المصانع ، وطلب مقابلة المدير ، فلما قابله وسأله عن عمل ، واذ بالمدير يسأله : هل تصلي ؟
صمت محمد برهة قبل أن يجيب ، السؤال غريب في بلد اليوكوشيما هذه , لماذا يسأل هذا السؤال ؟ هل سمع عن المصلين أنهم ارهابيون ، ولا يريد أن يتعامل معهم ؟ فاليابانيون اما بوذيون ، أو كونفوشيسيون ¸أو لا دينيون . فلماذا السؤال ؟
فقال في نفسه ان أفضل جواب : لا ، لا أصلي .
فقال المدير حسنا ، يوجد عمل .
ولكن اجابته بلا ، سببت له قلق ، فهو لا يحب الكذب . ولكن أصابه الفضول في معرفة السبب من وراء سؤال المدير هذا السؤال .
لابد من معرفة ، فاقترب من المدير ، وعلى وجهه علامات الهدوء وسأل المدير : لماذا تسألني عن الصلاة ؟

فقال : لقد كان عندي عامل أربكني وأربك العمل بكثرة ذهابه للصلاة ، وفوق هذا يستهلك وقتا كثيرا في صلاته ، فطردته .

فتمتم محمد في نفسه ، حسنا ، لقد كان جوابي في محله . وان شاء الله نقدر نحل المشكلة ، واستطيع التوفيق بين العمل والصلاة .
العمل في المصنع بالساعة , وتدخل فيه مناوبات في الليل والنهار ، وهذا ارباك لأي شيء غير العمل .
الشيء الممتاز بالنسبة لي الآن أني وجدت عملا . ما هو العمل , لا يهم ، التوفيق بين العمل والصلاة ، مرحلة ثانية . ان شاء الله يقدرنا على حلها في بلد اليوكوشيما هذه .
بعد اسبوع استلم محمد أول أجرة له.فكانت تكفي للمعيشة وزيادة. ولكن لا زال في وضع غير مريح ، يجب أن يصلي كل صلاة وملحقاتها في ميعادها .
فقال في نفسه ، أنا في اليابان بلد التكنولوجيا ، والحل يجب أن يكون بالتكنولوجيا أيضا . فكل دقيقة لها ثمنها ، وأريد أن أعمل وأعيش .
فتساءل محمد ، ماذا أعمل ؟ أريد أن أصلي . أريد أن أعمل وأُصلي .
آه وجدتها . أشتري " فلة " هذه الدمية المشهورة ، ويجب أن تكون ناطقة ، أي بها مسجل خاضع للأمر ، والمسجل به كل الصلوات والدعاء بعد كل صلاة ، ولا بد من جعلها مأمورة بالاتصال ، فكل صلاة لها رقمها ، وحينما يتم الاتصال بها ، تقوم بإقامة الصلاة المطلوبة ، واستحضار النية والبدء في التلاوة والركوع والسجود والتشهد والسلام ، ثم الدعاء ، وهكذا دواليك .
قال ، انها فكرة رائعة , تعفيني من الواجبات ، فهناك من ينوب عني ، فنحن في عصر التكنولوجيا ، وأنا بهذا أكسب العمل وأكسب حسنات .
ان هذه الفلة هي هداية من الله ، وهو عالم بحالي ، ومشكلتي , ولا بد ان عملي هذا سينال الرضى من الله ، وسيغفر لي ان أخطأت ، وهو عالم بالنية من وراء هذا . هي تقرأ عني ، تصلي عني ، وتدعو عني ، وتكسب حسنات لي لأني أنا من يأمرها ، وكل صلاة بوقتها .
هذا بديع ، انها هداية من الله, انها مثل أحدهم أن يحج ويذبح ويهب ثوابها لغيره . تمام ، تمام ، فكرة ممتازة . انه عصر التكنولوجيا الذي غزى كل مرافق الحياة ، فكيف لا تساعدني في حل مشكلتي هذه .
لماذا لا ، فالضرورة لها أحكامها ، وأنا في ورطة ، اما أن أهرب من هذه اليابان ، ومن هذه اليوكوشيما ، وأعود الى بلادي العربية التي وضعها لا يسر عدو ولا صديق ، وإما أن أجمع كل الصلوات ، وانفذها قضاء كلها كومة واحدة ، أو أقوم بما أقوم به من فرائض ، والباقي على " فلة " ، وحسب الطلب .
فالزمن مهم جدا في هذه اليوكو شيما ، فيجب أن تقسم وقتك ، وبدقة من التاك تاك ، الى النام نام ، من الصحو الى النوم ، وليس من بزوغ الشمس الى مغيبها ، فلا حساب لتعاقب الليل والنهار ، ولا لطلوع الشمس ومغيبها ، فالعمل وملء الزمن سيد الموقف ، والآلة تسير ويجب أن تلحق بها ، يجب أن تكون عى رأسها . وبعد ذلك تستطيع أن تسرق زمن للأكل والشرب والنزهة والرياضة ، أما القيام بصلاة الشكر والمحبة وصلاة زيادة الرصيد ، فشيء آخر .
فصلاة الشكر هي الشكر لله على النعمة والصحة وعرفان بالجميل أنه تركك حيا حتى هذه اللحظة . أما صلاتي المحبة والطاعة ، أي زيادة الرصيد ، فلهما وضع آخر ، مهم جدا . انهما صلوات في أوقاتها ، وهي مزيج من صلاتي المحبة " السنة " والفرض ، مضافا اليهما قيام الليل والتلاوة . وهما لزيادة الرصيد من الحسنات للآخرة ، يوم الموقف العظيم ، يوم تفتح السجلات للبشر جميعا .
الزمن ، العمل ، يقف في الصدارة في هذه اليوكوشيما ، فإذا أردت أن تضع صلاة الشكر والمحبة والرصيد في المقدمة ، واهمال أي شيء يتعارض معهما زمنيا ، ها ، ها سيكون مصيرك الطرد والتسول في بلاد اليوكوشيما هذه . ولكي تحفظ ماء وجهك ، ولا تتسول ، وتحافظ على سمعة العرب في بلاد اليوكوشيما ، يجب أن تعمل وتكسب رزقك بعرق جبينك .
إما هذا ، وإما ما العمل ؟ يجب القيام بالصلاة ، أقل ما يكون ، صلاة الرصيد المفروضة ، وهي المهمة ، وهي أصعب شيء لأنها في أوقاتها ، ولها متطلبات لا أستطيع الالتزام بها في بلاد اليوكوشيما ، أما صلوات الشكر والمحبة والنوافل ، فهي على أهميتها فممكن القيام بها في أوقات الفراغ الممكنة . ولكن الأهم صلاة الرصيد . يجب ، ويجب ، ويجب عدم التأخر عنها .
لا مفر ، إنها " فلة " ، فلة هي الحل ، انها دمية ، ولكنها الحل الأمثل في بلاد اليوكوشيما ، وممكن هذه التجربة في حال نجاحها أن تكون ملجأ للكثيرين مثلي ، وممكن أن تُعمم ، فالكثيرين يستخدمون المسجلات للتلاوة في كل الأوقات ، وفي كل الأماكن ، وحتى في الأسواق ، وقد تكون التلاوة ستار لألى يحس الزبون بارتفاع الأسعار في المحلات التي لا تتوقف فيها التلاوة .
نحن في عصر العلم والتطور والآلات الذاتية الحركة ، فالآلات تستخدم لضبط سرعة السيارة ، ولقيادة الطائرة ، ووصل بها الحد الى التحكم في المخزون النووي . إن مصير العالم في يد هذا الروبوت , و" فلة " بالنسبة لي .
إن " فلة " هي الحل ، ولكن كيف ؟ انها دمية ولا تتكلم ، ولا تفعل أي شيء لوحدها ، وأنا لست بصانع دُمى ، ولا صانع روبوتات ، والمطلوب :" فُلة " تتكلم ، تتحرك ، تركع وتسجد وتقرأ ما تيسر . و"روبوت " ، مبرمج ، وما علي إلا أن أضغط على الرقم المطلوب ،حتى تبدأ " فلة " بالعمل، وكل شيء بثوابه .
لماذا لا ، فهناك العديد من الدمى البشرية تقوم بهذا ولأسباب مختلفة ، بدافع التقليد أو الخوف من الطرد من العمل ، أو بدافع مسايرة التراث ، فلماذا ممنوع على " فلة " أن تقوم بهذا ؟
آه ، أنا في دوامة ، ولكن لا حل امامي غير " فُلة " ، فالضرورة لها أحكامها . وصانع الروبوتات والدمى جاهز ليجعل " فُلة " تقوم بكل هذا ، وبانتظام ودون عناء ، وتقوم بكل الصلوات والحركات المطلوبة ، وأكثر من ذلك .
ذهب محمد الى " روبوتوشاما " ، وأبدى له رغبته ، وانه سيزوده بكل التسجيلات اللازمة ، وشرح له الحركات المطلوبة ، والقراءة المطلوبة مع كل حركة ، مضافا اليها الدعوات والتسابيح المرافقة لكل صلاة .

انتصر " روبوتوشاما " للفكرة ن وقال انها ستكون آخر صيحة في صناعة الدمى المتحركة ، " فُلة تصلي " ، وسيكون لها صداها في العالم الاسلامي ، وسيقوم مليار شخص بشراء " فلتنا " ، ليس للصلاة فقط ، بل وللدعاية أيضا .
حسنا , إحضر لي كل ما تريد من تسجيلات ، بأسرع ما يمكن ، وستكون جاهزة خلال اسبوعين . وسأقوم بتجربتها ، أنا وأنت وسيكون لك مقابل ذلك مكافأة كبيرة .
عاد محمد أدراجه إلى المنزل مستبشراً ، وغمرته فرحة بالاعتزاز بالنفس ، ليس بالمكافأة فقط ، لا فقد شعر بأن له قيمة في بلاد اليوكوشيما .
فقال في نفسه : إنه اختراع منقطع النظير ، لم يسبقني إليه أحد من قبل .
وصل محمد منزله ، و قام بأداء صلاة شكر لله على هذه الهداية ، ثم جلس مسترخياً و الأفكار حوله " فلة " لا زالت تتشعب ، و تلفّ و تدور لأن هذا موضوع حسّاس جداً لارتباطه بالمقدّس . فبدأ يتساءل : هل هذا العمل صحيح ؟ ......إني أرى أن " فلة " مشهورة أكثر من أي شخصية علمية أو سياسية ، فهي تظهر في جميع القنوات التلفزيونية ، وتقوم بالدعاية الدينية والتجارية .
آه ، لست أنا من يقرر ، فهذا عمل شخصي . ماذا سيكون ردّة الفعل لـ " فلة " من هذا الطراز ؟ ... يجب أن أكون راضياً عن نفسي ، و لا يتم هذا الرضى إلا بمباركته من قبَل مصدر رسمي ( شيخ ، داعية ) يقوم بتدبيج فتوى ملائمة لكي نغلّف هذه الفلة بالغلاف المطلوب ، لكي تنال الرضى والقبول النفسي .

نعم لا بد من شيخ ، ولا بد من فتوى ، و لكن هل من السهل الحصول على فتوى ؟ لماذا لا ؟ فكل شيوخ العالم بشكل عام و شيوخ الدول العربية بشكل خاص ، جاهزون ، فالمفتيين على قفى من يشيل لصالح الملوك و الدكتاتوريين و الأمراء و السلاطين ، فلماذا " فلتي " سيقف أمامها المشايخ عاجزين ؟
وبما أن " فلتي " إلكترونية و مواكبة لروح العصر و التكنولوجيا ، فلن يعارضها أي شيخ متحضر ، أما المعارضة فستكون من المشايخ ذوي النزعة الأصولية ، الوهابية الذين هم في المقدمة دوماً لمعارضة كل جديد. و بعد سنوات ينتشر الجديد و يعمّ العالم و لا ينوبهم غير سواد الوجه .
مرّعلى محمد في العمل عدة أيام ، لم يستطع فيها التوفيق بين العمل و أداء الصلوات في أوقاتها ، المشكلة تتصاعد ، إنه في حالة اضطراب ، فعلاً يجب إيجاد حل لهذه المُعضلة ، و لما كان لا يستطيع ترك بلاد اليوكوشيما ، إذن " فلة " هي الحل .
بعد أسبوعين ، و إذ بالتليفون يعلن موسيقاه بأن أحداً يطلبه ، حسناً ، صار له معارف و يطلبونه تليفونياً .
هالو ، من ؟ جاء الجواب : أنا روبوتو شاما ، " فلة " جاهزة .
فور انتهاء العمل أسرع محمد إلى روبرتو شاما ، و وقف أمامه شاخصاً ، غير مصدّق أن فلة جاهزة ، و حسب المواصفات ، و اقترب من روبوتو و سأله : أينها ، أين فلة ؟
فردّ روبوتو : في المختبر ، هيا معي للتجريب ، فهي جاهزة ، و لكن قابلة للتعديل حسب الطلب .

فقلت : حسناً ، و هذا هو الأساس الذي يمنح الثقة بمصنوعاتكم و اسمكم .
بدأ روبوتو شاما بتجريب " فلة " بإرسال الأوامر الرقمية تباعاً ، و مراقبة الاستجابة الحركية و الصوتية التي أوصيته بها والتي قدّمتها له مسجلة بالكامل بالصوت و الحركة .
و هنا سألت روبوتو شاما : إن كنتُ أستطيع أخذها ، فردّ عليّ : لا ، بعد أسبوع . فأسرع محمد بالسؤال : لماذا ، لماذا ؟
فقال روبوتو شاما : إننا سنأخذ كوبي عن كل قطعة و الشكل العام ، و سنسجل كل شيء لعمل نماذج أكثر ملاءمة لهذه المهمة ، شكلاً و محتوى ، كما و يجب إلباسها ملابس ملائمة و نظيفة و بيضاء . كما سيجري دراسة جدواها التجارية ، و إذا اعتُمِدت في مصنعنا ، فسيكون لك نصيب من الربح ، اذهب إلى محامي المصنع ، و سجّل معلوماتك الشخصية عنده ، ربما يفيدنا و تفيدك .
فاندهش محمد بهذه الدقة ، و هذه النباهة ، و هذا الصدق من هذا الربوتو شاما ، فقال : حسناً .
بعد أسبوع ، ذهب محمد إلى روبوتو شاما فإذا كل شيء جاهز . " فلتي " جاهزة ، أفرغ محمد ما في جيوبه لقاء هذه الفلة ، فكل شيء بحسابه .
عاد محمد إلى مسكنه طائراً من الفرح ، و البسمة تبدو على كل قسماته و حركاته . و قال في نفسة : آه ..... لقد حُلَّت مشاكلي ، و زالت همومي ، و سيكون كل شيء تمام ، مع الله ، مع العمل . لقد حلّت فلة هذه المشكلة في بلاد اليوكوشيما .

إن الفرحة التي غمرت محمد كبيرة جعلته يشعر أنه لا يحتاج لمباركة الشيوخ و لا الدعاة ، و فكّر أنه إذا ما حاول معرفة رأي المشايخ أو دار الإفتاء ، فإنه سيفتح على " فلة " و على نفسه عاصفة جديدة لا قبَل له بالوقوف أمامها .
لا ..... لا ..... خُذ عروستك و حُطها تحت جفنك و غمّض عليها و لا تخلّي حدا يشوفها و الضرورة لها أحكامها .
أمضى محمد عدة أشهر في العمل استطاع خلالها أن يجمع قدرا لا بأس به من المال ، إلا أن القلق وعدم الراحة كانا يلازمانه ، في العمل ، في البيت في الشارع ، في علاقته مع " فلة " . وأخذ يتساءل : هل ما فعلته صحيح ، حضوري الى بلاد اليوكوشيما وعملي بعيدا عن موطني ، وأهلي " وهل ما تفعله " فلة " صحيح ؟
لقد كانت ثقافة محمد لا تجعله يستنتج أكثر من أن هناك خطأ يجب تعديله ، فما وجد نفسه إلا ويلقي ب " فلة " بعيدا ، ويجمع حقائبه ، وينهي علاقته بعمله ، ولا شيء يشغل باله غير الهروب من بلاد اليوكوشيما .

الثلاثاء، 4 مارس 2014

الثوابت الفلسطينية بين الأمس واليوم


= الثوابت الفلسطينية بين الأمس واليوم

المتتبع لمسار الحركة الوطنية الفلسطينية لا ينظر اليها من خلال الأحداث والصدامات العسكرية طول فترة الصراع فقط ، بل ينظر اليها من خلال الشعارات التي رفعت طوال هذا الصراع ليرى كم هي المسارب التي عبرتها هذه الشعارات ونوعية القوى التي تناوبت على رفعها ومدى تشظيها وتشرذمها وتآكلها حتى كادت أن تفقد محتواها الهادف الى تحقيق طموحات الشعب الفلسطيني في التحرر والاستقلال في دولة فلسطين الديمقراطية المستقلة  وعاصمتها القدس .

فقد عرفنا الثوابت الوطنية على أنها تعكس طموحات الشعب الفلسطيني في دولة فلسطينية على كامل حدود فلسطين التاريخية مشفوعة بشعار ما أُخذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة ، ولا اعتراف ولا مفاوضا ولا سلام مع إسرائيل . ولم يسرح خارج السرب السياسي الفلسطيني إلا حزبا واحدا أعلن تأييده منذ البداية لقرار التقسيم الصادر سنة 1947م ، وهو الحزب الشيوعي الفلسطيني لإدراكه أن اضراب سنة 1936م في فلسطين قد أفرز وجود كيانين اقتصاديين منفصلين . ولكن هذا الحزب لم يكن من الوزن والتأثير لتفعيل هذا الشعار وتطبيقه على أرض الواقع .

وبعد هزيمة سنة 1967م بدأت المناورات واختلط الشعار الوطني الفلسطيني واندمج مع الشعار القومي الذي لا يزيد عن ازالة آثار العدوان وحل مشكلة اللاجئين .

 ولما فشلت كل المناورات وصلنا الى حرب التحريك وخلق توازن سنة 1973م ، انفصلت بعدها مصر بحل منفرد عادت بموجبها سيناء الى مصر ، كما دخلت سوريا الى نموذج الاتفاقات المنفردة والتي كان نتيجتها اعادة جزء من الجولان لسوريا .

 ومنذ ذلك الحين فقد عامت القضية الفلسطينية في بحر التجاذبات العربية القومية ودخلت في مسارات متشعبة ومرت قوى الثورة الفلسطينية في مآزق هادفة لتصفيتها عسكريا في دول الجوار لفلسطين .

 ونتيجة للهزات العنيفة التي واجهتها قوى الثورة الفلسطينية والطرد من الأردن وبعدها لبنان ، وبالنظر الى اختلال التوازنات الدولية والعربية ، تحجم الشعار الوطني الفلسطيني في اقامة دولة في الأراضي الي أحتلت سنة 1967م تماشيا مع المبادرة العربية للسلام والتي تنص على أن تعترف الدول العربية باسرائيل مقابل الانسحاب من كامل الأراضي العربية التي أحتلت سنة 1967م واقامة دولة فلسطينية على الأراضي الفلسطينية منها وتكون القدس عاصمة لها .

  ولكن اسرائيل لم يبدر منها أي استجابة أو اعارة انتباه الى ما يدور عند الآخر ، سواء كان عربيا أو دوليا ، بل الى ما يدور في مخيلة مبرمجي سياسة اسرائيل من الصهاينة ذوي المخططات  الاستيطانية .

 وفي المقابل ساعدت ظروف عربية ودولية منظمة التحرير الفلسطينية في كسب اعتراف دولي بها كممثلة للشعب الفلسطيني ، وهذا فتح الباب لحشرها ضمن " اتفاقية أوسلو " الذي تكونت بموجبه " سلطة وطنية فلسطينية " والذي دشن موافقة فلسطينية لاتباع سياسة المراحل مما أوقع المفاوض الفلسطيني في اطار تفاوضي تسويفي يشرذم الهدف الوطني ، ويدخله في تفاصيل لا نهاية لها ، مما تولد الاحساس كأننا نحرث البحر ، فمن مأزق غزة أريحا أولا ، الى مناطق – ا ، ب ، ج  - والأمن أولا .

  أما اسرائيل فكانت تهدف الى شق الشعب الفلسطيني ما بين مؤيد لاتفاقات أوسلو ومعارض ، بل وتوظيف قوى فلسطينية ضد قوى أخرى لخدمة مخططاتها الأمنية .

 وغرق المفاوض الفلسطيني في بحر بلا مجداف تتقاذفه أمواج تفاصيل التفاصيل ، الأمنية والاقتصادية والحركية ، دون أن يلمس الشعب مردود فعلي لتحقيق الشعارات الوطنية على الأرض ، وهذا ما فجر انتفاضات متكررة وهجمات اسرائيلية كانت وبالا على الاقتصاد والبنية التحتية وتبع ذلك صراع داخل البيت الفلسطيني وحصار أدخل الشعب الفلسطيني في حالة من ضبابية الهدف والطريق .

 لم يبق في أيدي السلطة الفلسطينية وهي مركز التمثيل الفلسطيني غير نصوص من وثائق دولية تقول بعودة اللاجئين واعترافات اسمية بدولة معلقة في الهواء تنتظر قطعة من الأرض لترسو عليها ، دون معرفة متى سيحدث هذا ؟

 والآن ، ما هو الواقع الفلسطيني ، وماذا يجري ، وماذا بقي من الثوابت ؟

   فالملاحظ أن كل النيازك والشُهب والفيضانات والبراكين والأعاصير البشرية قد صبت جام غضبها على اللاجئين الفلسطينيين في دول الجوار في سوريا ولبنان وصولا الى العراق ، فكل صراع مهما كان شكله أو محتواه يجري توجيهه في النهاية ليكون للاجئ الفلسطيني منه نصيب ، دافعا اياه للجوء للمرة العاشرة ، الى أي مكان في العالم ، أما الى  فلسطين فلا .

 أما في الداخل فيوجد الآن أربعة ملامح تترك أثرها النفسي والعملي على طموحات الشعب وتأملاته في تحقيق اهدافه وهي : " المفاوضات " ، و" الهدنة " ، و" الانقسام " و " الحصار " . وكل هذه الملامح تترك أثرها على الثوابت الفلسطينية ، فكل يوم تتولد مصطلحات ومبتكرات ومسميات سياسية للتحايل على ثوابت الهدف الوطني الفلسطيني والتي تتلخص في " دولة " ، وعودة  " لاجئ " . فالثوابت بين مطرقة وسندان تتغير شكلها مع كل جولة مفاوضات .

 المفاوضات والتهدئة وجهان لعملة واحدة .

المفاوضان مع الاحتلال بهذا الشكل قد وضع الشعب الفلسطيني في وضع يظهر الضعف يوما بعد يوم وكل يوم نرى سقف الثوابت ينخفض الى أدنى مستوى ونرى أن الحقوق الوطنية تتآكل - من هنا وجب ايقاف مثل هذا المسار التفاوضي الذي يقيد الخيارات . فالمفاوض الفلسطيني وجد نفسه مقيدا بقيود زمنية ، وحسابات مالية أفقدته خيارات العودة لخيار المقاومة .

 وأيضا : القول بالهدنة وتوقف الأعمال العدائية ، ماذا يعني هذا ؟ انه يعني الإقرار للمحتل ببقاء احتلاله دون الاحتكاك به ومقاومته ، والدخول في حسابات ردود الأفعال ، وهذا يعني أيضا تقييد يد المقاومة ضد الاحتلال بحجة وجود تهدئة .

من هنا فالمفاوضات والتهدئة وجهان لعملة واحدة تهدف الى تقييد يد المقاومة ضد الاحتلال .

كما أن الحصار والانقسام وجهان لعملة واحدة تهدف الى تشتيت الهدف وتزييف المشاعر الوطنية المخلصة واخراجها من مسارها الوطني الى المسار الغير وطني الذي يشتت التحالف الوطني بين فصائل المقاومة ويضعه في مسار الصراع الداخلي بدل أن يكون مع الاحتلال .

 ان اتفاق الاطار الأمريكي الجاري الحديث عنه الآن في جولات من المفاوضات والمعلن عنه أنه يجب أن يتضمن دولة الفلسطينية تقام في القدس الشرقية، يتضمن أيضا تنازلات فلسطينية في قضايا أخرى قد تتصل بتعديل الحدود وموضوع اللاجئين. وستدرج هذه المواضيع وهي الحدود واللاجئين والمستوطنات والمياه في ملاحق للاتفاق على أن تبحثها لجان مشتركة. وأن اتفاق الاطار هذا «لن يكون مرحليا ولا مؤقتا وأنه سيكون اتفاقا نهائيا بين الجانبين». مع العلم أن اتفاق الاطار هذا لا يشمل غزة ، بل سيجري الحاق غزة لاتفاق الاطار بعد أن تتذوق الضفة حلاوته وما جر عليها من نِعم .

والآن ماهي خيارات القيادة الفلسطينية اذا فشل اتفاق الاطار هذا ؟ هناك خطة تُعرف بالخطة «ب» تتضمن انضمام فلسطين إلى الهيئات والمؤسسات الدولية، لكن هذه الخطة تلقى معارضة إسرائيلية وأميركية، وقد ترد عليها إسرائيل بتنفيذ انسحاب أحادي من الضفة الغربية، وهو ما سيضع الفلسطينيين في أزمة سياسية وأمنية ومالية.
 والآن وبعد مرور عشرون عاما على بدء المفاوضات ، والممكن أن تستمر لعشرين سنة قادمة ، ماذا سيبقى من الأرض ، وماذا سيبقى من الثوابت ؟

ماهي الدولة ؟؟هل للدولة دين ؟

لا تزال هناك صعوبات في تعريف الدولة , فالدولة مشتقة من كلمة STATUS أي حالة أو وضع , لذلك تعددت التعريفات الغير متفق على جزئياتها من قبل الجم...